الرسالة القشيرية
باب الصحبة
قال الله عزَّ وجلَّ: "ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن
إن الله معنا".
لما أثبت الله سبحانه للصدِّيق الصحبة بين أنه أظهر عليه الشفقة: فقال
تعالى: "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا".
فالحر شفيقٌ على من يصحبه.
أخبرنا عليّ بن أحمد الإهوازي، رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد
البصري، قال: حدثنا يحيى بن محمد الجياني قال: حدثنا عثمان بن عبد الله
القرشي، عن نعيم بن سالم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "متى ألقى أحبابي؟ فقال أصحابه: بأبينا أنت وأمنا. أو لسنا
أحبابك؟ فقال:أنتم أصحابي، أحبابي: قوم لم يروني، وآمنوا بي، وأنا إليهم
بالأشواق أكثر".
والصحبة على ثلاثة أقسام: صحبة منع من فوقك: وهي في الحقيقة خدمة، وصحبة
مع من دونك وهي تقضي على المتبوع بالشفقة والرحمة، وعلى التابع بالوفاق
والحرمة.
وصحبة الأكفاء والنظراء: وهي مبنية على الإيثار والفتوة؛ فمن صحب شيخاً
فوقه في الرتبة، فأدبه ترك الاعتراض، وحمل ما يبدو منه على وجه جميل،
وتلقى أحوال بالإيمان به.
سمعت منصور بن خلف المغربي وسأله بعض أصحابنا: كم سنة صحبت أبا عثمان
المغربي؟ فنظر إليه شزراً وقال: إني لم أصحبه، بل خدمته مدة.
وأما إذا صحبك من هو دونك، فالخيانة منك في حق صحبته أن لا تنبهه على ما
فيه م نقصان في حالته؛ ولهذا كتب أبو الخير التيناني إلى جعفر بن محمد بن
نصير: وزر جهل الفقراء عليكم؛ لأنكم اشتغلتم بنفوسكم عن تأديبهم، فبقوا
جهلة.
وأما إذا صحبت من هو في درجتك، فسبيلك النعامي عن عيوبه، وحملُ ما ترى منه
على وجه من التأويل جميلٍ، ما أمكنك، فإن لم تجد تأويلاً عدت إلى نفسك
بالتهمة وإلى التزام اللائمة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق. رحمه الله، يقول: قال أحمد بن أبي الحواري:
قلت لأبي سليمان الداراني: إن فلاناً لا يقع من قلبي!! فقال أبو سليمان:
وليس يقع أيضاً من قلبي، ولكن يا أحمد، لعلنا أتينا مِنْ قِبلنا، لسنا من
جملة الصاحلين؛ فلسنا نحبهم.
وقيل: صحب رجلٌ إبراهيم بن أدهم، فلما أراد أن يفارقه قال له الرجل: إن
رأيت فيَّ عيباً فنبي عليه. فقال إبراهيم: إني لم أر بك عيباً؛ لأني لاحتك
بعين الوداد؛ فاستحسنت منك ما رأيت، فسل غيري عن عيبك.
وفي معناه أنشدوا: وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ولكنَّ عن السخط
تبدي المساويا
وحكى عن إبراهيم بن شيبان أنه قال: كنا لا نصحب من يقول نَعلي.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: قال أبو أحمد
القلانسي، وكان من أستاذي الجنيد: صحبت أقواماً بالبصرة فأكرموني.. فقلت
مرّة لبعضهم: أين إزاري؟ فسقطت من أعينهم.
وسمعت أبا حاتم يقول: سمعت أبا نصر السرّاج يقول: سمعت الدقي يقول: سمعت
الزقاق يقول: منذ أربعين سنة أصحب هؤلاء: فما رأيت رفقاً لأصحابنا إلا من
بعضهم لبعض، أو ممن يحبهم، ومن لم يصحبه التقوى والورع في هذا الأمر أكل
الحرام النص.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: قال رجل لسهل بن عبد الله: أريد أن
أصحبك يا أبا محمد. فقال: إذا مات أحدنا فمن يصحبه الباقي؟ فقال: الله.
فقال له: فليصحبه الآن.
وصحب رجل رجلاً مدّة، ثم بدا لأحدهما المفارقة، فاستأذن صاحبه،
فقال: بشرط ألا تصحب أحداً إلا إذا كان فوقنا وإن كان أيضاً فوقنا فلا
تصحبه؛ لأنك صحبتناأولاً، فقال الرجل: زال من قلبي إرادة المفارقة.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: سمعت الدُّقي
يقول: سمعت الكناني يقول: صحبني رجل، وكان على قلبي ثقيلاً، فوهبت ل
شيئاً، ليزول ما في قلبي، فلم يَزُل!!.. فحملته إلى بيتي، وقلت له: ضع
رجلك على خدّي. فأبي، فقلت: لا بدّ. ففعل، واعتقدت أن لا يرفع رجله من
خدّي حتى يرفع الله من قلبي ما كنت أجده، فلما زال عن قلبي ما كنت أجده،
قلت له: أرفع رجلك الآن.
وكان إبراهيم بن أدهم يعمل في الحصاد وحفظ البساتين وغيره، وينفق على
أصحابه.
وقيل: كان مع جماعة من أصحابه، فكان يعمل بالنهار وينفق عليهم، ويجتمعون
بالليل في موضع وهم صيام، فكان يبطىء في الرجوع من العمل، فقالوا ليلة:
تعالوا نأكل فطورنا دونه، حتى يعود بعد هذا أسرع، فأفطروا، وناموا، فلما
رجع إبراهيم وجدهم نياماً، فقال: مساكين، لعلهم لم يكن لهم طعام؛ فَعَمد
إلى شيء من الدقيق كان هناك، فعجنه، وأوقد على النار، وطرح الملةَ،
فانتبهوا، وهو ينفخ في النار واضعاً محاسنه على التراب، فقالوا له في ذلك،
فقال: قلت لعلكم لم تجدوا فطوراً.. فنمتم.. فأحببت أن تستيقظوا والملة قد
أدركت.
فقال بعضهم لبعض: انظروا ما الذي عملنا، وما الذي به يعاملنا.
وقيل: كان إبراهيم بن أدهم إذا صحبه أحد شارطه على ثلاثة اشياء: أن تكون
الخدمة والأذان له، وأن تكون يده في جميع ما يفتح الله عليهم من الدنيا
كيدهم.
فقال له يوماً رجل من أصحابه: أنا لا أقدر على هذا؟ فقال: أعجبني صدقك.
وقال يوسف بن الحسين: قلت لذي النون: مع من أصحب؟ فقال: مع من لا تكتمه
شيئاً يعلمه الله تعالى منك.
وقال سهل بن عبد الله لرجل: إن كنت ممن يخاف السباع فلا تصحبني.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسن العلوي يقول: حدثنا عبد
الرحمن بن حمدان قال: حدثنا أبو القاسم بن منبه قال: سمعت بشر بن الحارث
يقول: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار.
وحكى الجنيد قال: لما دخل أبو حفص بغداد كان معه إنسان أصلع لا يتكلم
بشيء.. فسألت أصحاب أبي حفص عن حاله، فقالوا: هذا رجل أنفق عليه مائة ألف
درهم، واستدان مائة ألف درهم أنفقها عليه، ولا يُرخص له أبو حَفص أن يتكلم
بحرف.
وقال ذو النون: لا تصحب مع الله إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا
بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة.
وقال رجل لذي النون: مع من أصحب؟ فقال: مع من إذا مرضت عادك، وإذا أذنبت
تاب عليك.
سمعت الأستاذ أبا عليّ، رحمه الله، يقول: الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته
أحد يورق ولكنه لا يثمر، كذاك المريد إذا لم يكن له أستاذ يتخرج به لايجيء
منه شيئ.
وكان الأستاذ أبو عليّ، يقول: أخذت هذا الطريق عن النصراباذي، والنصرأباذي
عن الشبلي، والشبلي عن الجنيد، والجنيد عن السريّ، والسريّ عن معروف
الكرخي، ومعروف الكرخي عن داود الطائي، وداود الطائي لقي التابعين.
وسمعته يقول: لم أختلف إلى مجلس النصراباذي قط إلا اغتسلت قبله.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ولم أدخل أنا على الأستاذ أبي عليّ في
وقت بدايتي إلا صائماً، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة
فأرجع من الباب؛ احتشاماً منه أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت
المدرسة كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبني شبه خدّرٍ، حتى لو غرزني إبرة
-مثلاً- لعلي كنت لا أحسن بها، ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لي لم أحتج أن
أسأله بلساني عن المسألة، فكما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتي، وغير مرة
رأيت منه هذا عياناً، وكنت أفكر في نفسي كثيراً أنه لو بعث الله في وقتي
رسولاً إلى الخلق هل يمكنني أن أزيد من حشمته على قلبي فوق ما كان منه،
رحمه الله، فكان لا يتصور لي أن ذلك ممكن، ولا أذكر أني في طول اختلافي
إلى مجلسه، ثم كوني معه بعد حصول الوصلة، أن جرى في قلبي أو خطر ببالي
عليه قط اعتراض، إلى أن خرج رحمه الله من الدنيا.
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، رحمه الله، قال: أخبرنا محمد ابن
أحمد العبدي، قال: أخبرنا أبو عوانة، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا خلف بن
تميم أبو الأحوص، عن محمد بن النضر الحارثي، قال: أوحى الله سبحانه، إلى
موسى عليه السلام: كن يقطاناً.. مرتاداً لنفسك أخداناً. وكل خدن لا يؤاثيك
على. مسرّة فاقصه. ولا تصحبه؛ فإنه يقسى قلبك، وهو لك عدو، وأكثر من ذكرى
تستوجب على شكري والمزيد من فضلي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله.. أبن
المعلم يقول: سمعت أبا بكر الطمستاني يقول: اصحبوا مع الله، فإن لم تطيقوا
فاصحبوا مع من يصحب مع الله، لتوصكم بركات صحبتهم إلى صحبة الله عزَّ
وجلَّ.