بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، وصلى الله على نبينا
محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ..
أما بعد ، فهذا كتاب جم
الفوائد بديع الفرائد ، ينتفع به من أراد الله والدار الآخرة .. سميته ((
تجريد التوحيد المفيد )) ، والله أسأل العون على العمل بمنه .
اعلم أن الله سبحانه رب كل شيء ومالكه وإلههُ :
في معنى الرب :
فالرب مصدر ربُّ يرَبُّ ربّاً فهو رابٌّ : فمعنى قوله تعالى }
رَبِّ الْعَالَمِينَ { رابِّ العالمين ، فإن الرب سبحانه وتعالى هو الخالق
الموجد لعباده ، القائم بتربيتهم وإصلاحهم من خَلقٍ ورزقٍ وعافية وإصلاح
دين ودنيا .
في معنى الإلهية :
والإلهية كون العباد يتخذونه سبحانه محبوباً مألوهاً ويفردونه بالحب
والخوف والرجاء والإخبات والتوبة والنذر والطاعة والطلب والتوكل ، ونحو
هذه الأشياء . فإن التوحيد حقيقته أن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤية
تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط ، فلا ترى الخير والشر إلا منه تعالى
، وهذا المقام يثمر التوكل وترك شكاية الخلقِ وترك لومهم والرضا عن الله
تعالى والتسليم لحكمه .
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الربوبية منه تعالى لعباده والتَّأَلُّهَ من عباده
له سبحانه ، كما أن الرحمة هي الوصلة بينهم وبينه عز وجل .
بيان أن للتوحيد قشرين
للتوحيد قشران :
واعلم أن أنفس الأعمال وأجلها قدراً توحيد الله تعالى .. غير أن التوحيد
له قشران : القشر الأول : أن تقول بلسانك لا إله إلا الله ، ويسمى هذا
القول توحيداً ، وهو مناقض للتثليث الذي تعتقده النصارى ، وهذا التوحيد
يصدر أيضاً من المنافق الذي يخالف سره جهره .
القشر الثاني :
أن لايكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هذا القول ، بل يشتمل
القلب على اعتقاده ذلك والتصديق به وهذا هو توحيد عامة الناس .
لباب التوحيد وما يخرج عنه :
ولباب التوحيد أن يرى الأمور كلها لله تعالى ، ثم يقطع الالتفاف إلى
الوسائط وأن يعبده سبحانه عبادة يفرده بها ولا يعبد غيره . ويخرج عن هذا
التوحيد اتباع الهوى .. فكل من اتبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده قال الله
تعالى } أفرأيت من اتخذ إلهه هواه {" الجاثية :23 " .
وإذا تأملت عرفت أن عابد الصنم لم يعبده ، وإنما عبد هواه ، وهو ميل نفسه
إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل ، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني
التي يعبر عنها بالهوى ، ويخرج عن هذا التوحيد السخط على الخلق والالتفات
إليهم ، فإن من يرى الكل من الله يسخط على غيره أو يأمل سواه . وهذا
التوحيد مقام الصديقين .
توحيد الربوبية لابد معه من توحيد الإلهية :
ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون ، بل أقروا بأنه سبحانه وحده
خالقهم وخالق السماوات والأرض ، والقائم بمصالح العالم كله ، وإنما أنكروا
توحيد الإلهية والمحبة كما قد حكى الله تعالى عنهم في قوله } ومن الناس من
يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله { "
البقرة :165". فلما سووا غيره به في هذا التوحيد كانوا مشركين كما قال
الله تعالى } الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات
والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون{ "الأنعام :1 ".
وقد علّم الله سبحانه وتعالى عباده كيفية مباينة الشرك في توحيد الإلهية
وأنه تعالى حقيق بإفراده وليّاً وحَكَماً وربّاً . فقال تعالى } قل أغير
الله أتخذ ولياً{ "الأنعام : 14 " وقال } أفغير الله أبتغي حَكًماً
{"الأنعام : 114 " وقال :} قل آغير الله أبغي رباً{" الإنعام : 164" .
الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية
من عدل بالله غيره فقد أشركَ :
فلا وليَّ ولا حَكَمَ ولا رب إلا الله الذي من عَدَلَ به غيره فقد أشرك في
ألوهيتهِ، ولو وحد ربوبيته ، فتوحيد الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق
، مؤمنها وكافرها ، وتوحيد الألوهية مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين ،
ولهذا كانت كلمة الإسلام لا إله إلا الله ، ولو قال لا رب إلا الله لما
أجزأه عند المحققين ، فتوحيد الألوهية هو المطلوب من العباد . ولهذا كان
أصل (( الله )) الإله ، كما هو قول سيبَوَيه ، وهو الصحيح وهو قول جمهور
أصحابه ، إلا من شذ منهم .
وبهذا الاعتبار الذي قررنا به الإله ، وأنه المحبوب لاجتماع صفات االكمال
فيه كان الله هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا
، وهو الذي ينكره المشركون ويحتج الرب سبحانه وتعالى عليهم بتوحيدهم
ربوبيته على توحيد ألوهيته ، كما قال الله تعالى } قل الحمد لله
وسلام على عباده الذين اصطفى ءآلله خير أما يشركون ، أمن خلق السماوات
والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ماكان لكم أن
تنبتوا شجرها أءله مع الله بل هم قوم يعدلون {"النمل :59و60". وكلما ذكر
تعالى من آياته جملة من الجمل قال عقبها } أله مع الله {فأبان سبحانه
وتعالى بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الإلهية لا
الربوبية على أن منهم من أشرك في الربوبية كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله
تعالى .
وبالجملة فهو تعالى يحتج على منكري الإلهية بإثباتهم الربوبية . ويتركهم
سدىً معطلين لا يؤمرون ولا ينهون ، ولا يثابون ولا يعاقبون ، فإن الملك هو
الآمر الناهي المعطى المانع الضار النافع المثيب المعاقب .
الرب والملك والإله :
ولذلك ، جاءت الاستعاذة في سورة الناس وسرة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة
، الرب والملك والإله ، فإنه لما قال : } قل أعوذ رب الناس { كان
فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم ، فبقي أن يقال ، لما خلقهم هل كلفهم وأمرهم
ونهاهم ؟ : قيل نعم ، فجاء }ملك الناس{ فأثبت الخلق والأمر . }أله
له الخلق والأمر {"الأعراف :54" . فلما قيل ذلك ، قيل فإذا كان ربا موجداً
وملكاَ مكلفاً ، فهل يُحَبُّ وَيُرَغَّبُ إليهِ،ويكون التوجه إليه غاية
الخلق والأمر . قيل } إله الناس{ ، أي مألوهم ومحبوبهم الذي لا يتوجه
العبد المخلوق المكلف العابد إلا له ، فجاءت الإلهية خاتمة وغاية وما
قبلها كالتوطئة لها.
©
2006-2002, Dara O. Shayda