الكتاب : أسرار العربية
المؤلف : كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن أبي سعيد الأنباري
المحقق :
رب يسر و أعن
قال الشيخ الإمام العالم
الأوحد كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن ابن محمد بن أبي سعيد الأنباري
أدام الله أيامه الحمد لله كاشف الغطاء ومانح العطاء ذي الجود والإيداء
والإعادة والإبداء المتوحد بالذات القديمة المقدسة عن الحين والفناء
المنفرد بالصفات الأزلية المنزهة عن الزوال والفناء والصلاة على محمد سيد
الأنبياء وعلى آله وأصحابه الأصفياء وبعد فقد ذكرت في هذا الكتاب الموسوم
باسرار العربية كثيرا من مذاهب النحويين المتقدمين والمتأخرين من البصريين
والكوفيين وصححت ما ذهبت إليه منها بما يحصل به شفاء الغليل و أوضحت فساد
ما عداه بواضح التعليل ورجعت في ذلك كفه إلى الدليل وأعفيته من الإسهاب
والتطويل وسهلته على المتعلم غاية التسهيل قال تعالى ينفع به وهو حسبي
ونعم الوكيل. (1/1)
*****باب علم ما الكلم*****
إن قال قائل ما الكلم قيل الكلم اسم جنس واحدته كلمة كقولك نبقة ونبق
ولبنة ولبن وثفنة وثفن وما أشبه ذلك فإن قيل ما الكلام قيل ما كان من
الحروف دالا بتأليفه على معنى يحسن السكوت عليه فإن قيل ما الفرق بين
الكلم والكلام قيل الفرق بينهما أن الكلم ينطلق على المفيد وعلى غير
المفيد وأما الكلام فلا ينطلق إلا على المفيد خاصة فإن قيل فلم قلتم ان
أقسام الكلام ثلاثة لا رابع لها قيل لأنا وجدنا هذه الأقسام الثلاثة يعبر
بها عن جميع ما يخطر بالبال ويتوهم في الخيال ولو كان ههنا قسم رابع لبقي
في النفس شيء لا يمكن التعبير عنه ألا ترى أنه لو سقط آخر هذه الأفسام
الثلاثة لبقي في النفس شيء لا يمكن التعبير عنه بإزاء ما سقط فلما عبر
بهذه الأقسام عن جميع الأشياء دل على أنه ليس إلاهذه الأقسام الثلاثة فإن
قيل لم سمي الاسم اسما قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب البصريون إلى أنه
سمى اسما لوجهين:
إحدهما أنه سمي على مسماه وعلا على ما تحته من معناه فسمي اسما لذلك
والوجه الثاني أن هذه الأقسام
الثلاثة لها ثلاث مراتب فمنها ما يخبر يه ويخبر عنه وهو الاسم نحو زيد
قائم ومنها ما يخبر به ولا يخبر عنه وهو الفعل نحو قام زيد ومنها ما لا
يخبر به ولا يخبر عنه وهو الحرف نحو هل وبل وما أشبه ذلك. (1/2)
فلما كان الاسم يخبر به ويخبر عنه والفعل يخبر به ولا يخبر عنه والحرف لا
يخبر به ولا ! خبر عنه فقد سما الاسم على الفعل والحرف أي ارتفع والأصل
فيه سمو إلا أنهم حذفوا الواو من آخره وعوضوا الهمزة في أوله فصار اسما
ووزنه إفع لأنه قد حذف منه لامه التي هي الواو في سمو
وذهب الكوفيون إلى أنه سمي اسما لأنه سمة على المسمى يعرف بها والسمة
العلامة والأصل فيه وسم إلا أنهم حذفوا الواو من أوله و عوضوا مكانها
الهمزة فصار اسما ووزنه إعل لأنه قد حذف منه لأمه التي هي الواو في
وسم لمه والصحيح ما ذهب إليه
البصريون وما ذهب إليه الكوفيون وان كان صحيحا من جهة المعنى إلا أنه فاسد
من جهة التصريف وذلك من أربعة أوجه: (1/3)
الوجه الأول أنك تقول في تصغيره سمي نحو حنو وحني وقنو وقني ولو كان
مأخوذا من السمة لوجب أن تقول وسيم كما تقول في تصغير عدة وعيدة و في
تصغير زنة وزينة فلما قيل سمي دل على أنه من السمو لا من السمة وكان الأصل
فيه سميو إلا أنه لما اجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو
ياء وجعلوهما ياء مشددة كما قالوا سيد وهين وميت والأصل فيه سيود وهيون
وميوت إلا أنه لما اجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو
ياء وجعلوهما ياء مشددة وقلبوا الواو إلى الياء ولم يقلبوا الياء إلى
الواو لأن الياء أخف والواو اثقل فلما وجب قلب إحدهما إلى الآخر كان قلب
الواو التي هي اثقل إلى الياء التي هي أخف أولى الوجه الثاني أنك تقول في
تكسيره أسماء نحو حنو و أحناء وقنو وأقناء و لو كان مأخوذا من السمة لوجب
أن تقول في تكسيره أوسام فلما قيل أسماء دل على أنه من السمو لا من السمة
وكان الأصل فيه أسماو إلا أنه لما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة قلبت
همزة كما قالوا حذاء وكساء وسماء والأصل فيه حذاو و كساو و سماو إلا أنه
لما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة وقيل قلبت ألفا لأنها لما
كانت
متحركة وقبل الألف فتحة لازمة
قدروا أنها قد تحركت وانفتح ما قبلها لأن الألف لما كانت خفية زائدة ساكنة
والحرف الساكن حاجز غير حصين لم يعتدوا بها فقلبوا الواو ألفا فاجتمع
ألفان ألف زائدة وألف منقلبة والألفان ساكنان وهما لا يجتمعان فقلبت
المنقلبة همزة لالتقاء الساكنين وكان قلبها إلى الهمزة أولى لأنها أقرب
الحروف إليها والوجه الثالث أنك تقول أسميته ولو كان مأخوذا من السمة لوجب
أن تقول وسمته فلما قيل أسميته دل على أنه من السمو لا من السمة وكان
الأصل فيه أسموت إلا أنه لما وقعت الواو رابعة قلبت ياء كما قالوا أدعيت
وأغزيت وأشقيت والأصل فيه أدعوت وأغزوت وأشقوت إلا أنه لما وقعت الواو
رابعة قلبت ياء وإنما قلبت باء حملا على المضارع نحو يدعى ويغزى ويشقى
والأصل فيه يدعو ويغزو ويشقو وإنما قلبت ياء في المضارع للكسرة قبلها فأما
تغازيت وترجيت فإنما قلبت الواو فيهما ياء وان لم تقلب ياء في لفظ المضارع
لأن الأصل في تفاعلت فاعلت وفي تفعلت فعلت وفاعلت وفعلت يجب قلب الواو
فيهما ياء فكذلك تفاعلت وتفعلت. (1/4)
والوجه الرابع أنك تجد في أوله همزة التعويض وهمزة التعويض إنما تكون فيما
حذف منه لامه لا فاؤه ألا ترى أنهم لما حذفوا الواو التي هي اللام من بنو
عوضوا الهمزة في أوله فقالوا ابن ولما حذفوا الواو التي هي الفاء من عدة
ونحو ذلك لم يعوضوا الهمزة في أوله فلما عوضوا الهمزة ههنا في أوله دل على
أن الأصل فيه سمو كما أن الأصل في ابن بنو إلا أنهم لما حذفوا الواو التي
هي اللام عوضوا الهمزة في أوله فقالوا اسم فدل على أنه مشتق من السمو لا
من السمة السمة ومما يؤيد أنه مشتق من السمو لا من السمة أنه قد جاء في
اسم سمي على وزن هدي والأصل فيه سمو إلا أنه لما تحركت الواو و انفتح ما
قبلها قلبوها ألفا وحذفوا الألف لسكونها وسكون التنوين فصار سمي.
وفي الاسم خمس لغات اسم واسم
وسم وسم وسمي قال الشاعر من - الرجز - باسم الذي في كل سورة سمه ويروي سمه
وقال الآخر - من الرجز (1/5)
( وعامنا اعجبنا مقدمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سمه ) وقال الآخر - من
الرجز -
( والله أسماك سمي مباركا ... آثرك الله به ايثاركا ) وكسرت الهمزة في اسم
لمحا لكسرة سينه في سمو لأنه الأصل وضمت الهمزة في اسم لمحا لضمة سينه في
سمو لأنه أصل ثان واالذي يدل على ذلك اللغتان الأخريان وهما سم وسم فإنهما
حدفت لامهما وبقيت فاؤهما على حركتها في الأصلين ووزن اسم - بضم الهمزة -
افع ووزن سم فع ووزن سم فع ووزن سمي فعل فإن قيل ما حد الاسم قيل كل لفظة
دلت على معنى تحتها غير مقترن بزمان محصل وقيل ما دل على معنى وكان ذلك
المعنى شخصا أو غير شخص وقيل ما استحق الإعراب في أول وضعه
وقد ذكر فيه النحويون حدودا كثيرة تنيف على سبعين حدا وأحصرها أن نقول كل
لفط دل على معنى مفرد يمكن أن يفهم بنفسه وحده من غير أن يدل ببنيته لا
بالعرض على الزمان المحصل الذي فيه ذلك المعنى
فهذا الحد أحصر وغيره أخصر
ومنهم من قال لا حد له ولهذا لم يحده سيبويه وإنما اكتفى فيه بالمثال فقال
الاسم رجل وفرس فإن قيل ما علامات الاسم قيل علامات الاسم كثيرة فمنها ا
الألف واللام نحو الرجل والغلام ومنها التنوين نحو رجل وغلام ومنها حرف
الجر نحو من زيد وإلى عمرو ومنها التثنية نحو الزيدان والعمران ومنها
الجمع نحو الزيدون والعمرون ومنها النداء نحو يا زيد ويا عمرو ومنها
الترخيم نحو يا حار ويا مال في ترخيم حارث ومالك وقد قرأ بعض السلف ونادوا
يا مال ليقض علينا ربك ومنها التصغير نحو زييد وعمير في تصغير زيد وعمرو
ومنها النسب نحو زيدي وعمري في النسب إلى زيد وعمرو ومنهاالوصف نحو زيد
العاقل ومنها أن يكون فاعلا أو مفعولا نحو ضرب زيد عمرا ومنها أن يكون
مضافا أو مضافا إليه نحو غلام زيد وثوب خز ومنها أن يكون مخبرا عنه كما
بينا فهذه معظم علامات الاسم. (1/6)
فإن قيل لم سمي الفعل فعلا قيل لأنه يدل على الفعل الحقيقي ألا ترى أنك
إذا قلت ضرب دل على نفس الضرب الذي هو الفعل في الحقيقة فلما دل عليه سمي
به لأنهم يسمون الشيء بالشيء اذا كان منه بسبب وهو كثير في كلامهم فإن قيل
فما حد الفعل قيل حد الفعل كل لفظة دلت على معنى تحتها مقترن بزمان محصل
وقيل ما أسند إلى شيء ولم يسند إليه شيء وقد حده النحويون أيضا بحدود
كثيرة فإن قيل ما علامات الفعل قيل علامات الفعل كثيرة فمنها قد والسين
وسوف نحو قد قام وسيقوم وسوف يقوم ومنها تاء الضمير وألفه و واوه نحو قمت
و قاما وقاموا ومنها تاء التأنيث الساكنة نحو قامت وقعدت ومنها أن الخفيفة
المصدرية نحو أريد أن تفعل و منها إن الخفيفة الشرطية نحو إن تفعل أفعل
ومنها لم نحو لم يفعل وما أشبه ذلك ومنها التصرف نحو فعل يفعل و كل
الأفعال إلا تتصرف ستة أفعال و هي نعم و بئس و عسى و ليس وفعل التعجب
و حبذا وفيها كلها خلاف و لها
كلها أبواب نذكرها فيها إن شاء الله تعالى. (1/7)
فإن قيل لم سمي الحرف حرفا قيل لأن الحرف في اللغة هو الطرف ومنه يقال حرف
الجبل أي طرفه فسمي حرفا لأنه يأتي في طرف الكلام.
فإن قيل فما حده قيل ما جاء لمعنى في غيره وقد حده النحويون أيضا بحدود
كثيرة لا يليق ذكرها بهذا المختصر فإن قيل فإلى كم ينقسم الحرف قيل إلى
قسمين معمل ومهمل فالمعمل هو الحرف المختص كحرف الجر وحرف الجزم والمهمل
غير المختص كحرف الاستفهام وحرف العطف ثم الحروف المعملة والمهملة كلها
تنقسم إلى ستة أقسام فمنها ما يغير اللفظ والمعنى ومنها ما يغير اللفظ دون
المعنى ومنها ما يغير المعنى دون اللفظ ومنها ما يغير اللفظ والمعنى ولا
يغير الحكم ومنها ما يغير الحكم ولا يغير لا لفظا ولا معنى ومنها ما لا
يغير لا لفظا ولا معنى ولا حكما فأما ما يغير اللفظ والمعنى فنحو ليت تقول
ليعت زيدا منطلق ف ليت قد غيرت اللفظ وغيرت المعنى أما تغيير اللفظ فلأنها
نصبت الاسم ورفعت الخبر وأما تغيير المعنى فلأنها أدخلت في الكلام معنى
التمني وأما ما يغير اللفظ دون المعنى فنحوا إن تقول إن زيدا قائم ف أن قد
غيرت اللفظ لأنها نصبت الاسم ورفعت الخبر ولم تغير المعنى لأن معناها
التأكيد والتحقيق وتأكيد الشيء لا يغير معناه وأما ما يغير المعنى دون
اللفظ فنحو هل تقول هل زيد قائم ف هل قد غيرت المعنى لأنها نقلت الكلام من
الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب إلى الاستخبار الذي لا يحتمل صدقا ولا كذبا
ولم تغير اللفظ لأن الاسم بعد دخولها مرفوع بالابتداء كما كان يرتفع به
قبل دخولها وأما ما يغير اللفظ والمعنى ولا يغير الحكم فنحو اللام في
قولهم لا يدي لزيد فاللام ههنا غيرت اللفظ لجرها الاسم وغيرت
المعنى لإدخال معنى الاختصاص
ولم تغير الحكم لأن الحكم حذف النون للاضافة وقد بقي الحذف بعد دخلوها كما
كان قبل دخولها فلم تغير الحكم وأما ما يغير الحكم ولا يغير لا لفظا ولا
معنى فنحو اللام في قوله تعالى ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول
الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون ) فاللام
ههنا ما غيرت لا لفظا ولا معنى ولكن غيرت الحكم لأنها علقت الفعل عن العمل
ا وأما ما لا يغير لا لفظا ولا معنى ولا حكما فنحو ما في قوله تعالى ء
فبما رحمة من الله لنت لهم ف ههنا ما غيرت لا لفظا ولا معنى ولا حكما لأن
التقدير فبرحمة من الله لنت لهم فإن قيل كيف اسم أو فعل أو حرف قيل اسم
والدليل على ذلك من وجهين أحدهما أنه قد جاء عن بعض العرب أنه قال على كيف
تبيع الأحمرين ودخول حرف الجر عليها يدل على أنها اسم إلا أن هذا الوجه
ضعيف لأن دخول حرف الجر عليها إنماجاء شاذا (1/8)
والوجه الثاني - وهو الصحيح - و هو أنا نقول لا تخلو كيف من أن
تكون اسما أو فعلا أو حرفا
بطل أن يقال هي حرف لأن الحرف لا يفيد مع كلمة واحدة و كيف تفيد مع كلمة
واحدة ألا ترى أنك تقول كيف زيد فيكون كلاما مفيدا فإن قيل فقد أفاد الحرف
مع كلمة واحدة في النداء نحو يا زيد قيل إنما حصلت الفائدة في النداء مع
كلمة واحدة لأن التقدير في قولك يا زيد أدعو زيدا أو أنادي زيدا فحصلت
الفائدة باعتبار الجملة المقدرة لا باعتبار الحرف مع كلمة واحدة فبطل أن
يكون حرفا وبطل أيضا أن يكون فعلا لأنه لا يخلو إما أن يكون فعلا ماضيا أو
مضارعا أو أمرا بطل أن يكون فعلا ماضيا لأن أمثلة الفعل الماضي لا تخلو
إما أن تكون على وزن فعل كضرب أو على فعل كمكث أو على فعل كسمع وعلم و كيف
على وزن فعل فبطل أن يكون فعلا ماضيا وبطل أن يكون فعلا مضارعا لأن الفعل
المضارع ما كانت في أوله إحدى الزوائد الأربع وهي الهمزة والنون والتاء
والياء و كيف ليس في أوله إحدى هذه الزوائد الأربع فبطل أن يكون فعلا
مضارعا وبطل أن يكون أمرا لأنه يفيد الاستفهام وفعل الأمر لا يفيد
الاستفهام فبطل أن يكون أمرا وإذا بطل أن يكون فعلا ماضيا أو مضارعا أو
أمرا بطل أن يكون فعلا والذي يدل أيضا على أنه ليس بفعل أنه يدخل على
الفعل في نحو قولك كيف تفعل كذا ولو كان فعلا لما دخل على الفعل لأن الفعل
لا يدخل على الفعل.
(1/9)
وإذا بطل أن يكون فعلا أوحرفا
وجب أن يكون اسما فإن قيل فعلامة الاسم لا تحسن فيه كما لا يحسن فيه علامة
الفعل والحرف فلم جعلتموه اسما ولم تجعلوه فعلا أو حرفا قيل لأن الاسم هو
الأصل والفعل والحرف فرع فلما وجب حمله على أحد هذه الأقسام الثلاثة كان
حمله على الاسم الذي هو الأصل أولى من حمله على ما هو فرع فإن قيل فلم قدم
الاسم على الفعل والفعل على الحرف قيل إنما قدم الاسم على الفعل لأنه
الأصل ويستغني بنفسه عن الفعل نحو قولك زيد قائم وآخر الفعل عن الاسم لأنه
فرع عليه ولا يستغني عنه فلما كان الاسم هو الأصل ويستغني عن الفعل والفعل
فرع عليه ومفتقر إليه كان الاسم مقدما عليه و إنما قدم الفعل على الحرف
لأن الفعل يفيد مع اسم واحد نحو قام زيد وآخر الحرف عن الفعل لأنه لا يفيد
مع اسم واحد فإنك لو قلت بزيد أو لزيد من غير أن تعلق الحرف بشيء لم يكن
مفيدا فلما كان الفعل يفيد مع اسم واحد والحرف لا يفيد مع اسم واحد كان
الفعل مقدما عليه فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
(1/10)
*****باب
الإعراب و البناء***** (/)
إن قال قائل لم سمي الإعراب إعرابا والبناء بناء قيل أما الإعراب ففيه
ثلاثة أوجه:
إحدها أن يكون سمي بذلك لأنه يبين المعاني مأخوذ من قولهم أعرب الرجل عن
حجته إذا بينها ومنه قوله الثيب يعرب عنها لسانها أي يبين ويوضح قال
الشاعر - من الطويل -
( وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقي ومعرب ) فلما كان الإعراب يعين
المعاني سمي إعرابا.
والوجه الثاني أن يكون سمي إعرابا لأنه تغير يلحق أو آخر الكلم من قولهم
عربت معدة الفصيل إذا تغيرت فإن قيل العرب في قولهم عربت معدة الفصيل
معناه الفساد فكيف يكون الإعراب مأخوذا منه قيل معنى قولك أعربت الكلام أي
أزلت عربه وهو فساده وصار هذا كقولك أعجمت الكتاب إذا أزلت عجمته وأشكيت
الرجل إذا أزلت شكايته و على هذا حمل بعض المفسرين قوله تعالى ( إن الساعة
آتية أكاد أخفيها ) أي أزيل خفاءها وهذه الهمزة تسمى همزة السلب والوجه
الثالث أن يكون سمي إعرابا لأن المعرب للكلام كأنه يتحبب إلى السامع
باعرابه من قولهم امرأة عروب إذا كانت متحببه إلى زوجها قال الله تعالى (
عربا أترابا ) أي متحببات إلى أزواجهن فلما كان المعرب للكلام كأنه يتحبب
إلى السامع بإعرابه سمي إعرابا.
وأما البناء فهو منقول من هذا البناء المعروف للزومه وثبوته فإن قيل فما
حد الإعراب والبناء قيل أما الإعراب فحده اختلاف أواخر الكلم باختلاف
العوامل لفظا أو تقديرا وأما البناء فحده لزوم أواخر الكلم بحركة أو سكون.
فإن قيل كم ألقاب الإعراب
والبناء قيل ثمانية أربعة للإعراب و أربعة للبناء فألقاب الإعراب رفع ونصب
وجر وجزم وألقاب البناء ضم وفتح وكسر ووقف ا وهي وإن كانت ثمانية في
المعنى فهي أربعة في الصورة فإن قيل فلم كانت أربعة قيل لأنه ليس إلا حركة
أو سكون فالحركة ثلاثة أنواع الضم والفتح والكسر فالضم من الشفتين والفتح
من أقصى الحلق والجر من وسط الفم والسكون هو الرابع فإن قيل هل حركات
الإعراب أصل لحركات البناء أو حركات البناء أصل لحركات الإعراب قيل اختلف
النحويون في ذلك فذهب بعض النحويين إلى أن حركات الإعراب هي الأصل وأن
حركات البناء فرع عليها لأن الأصل في حركات الإعراب أن تكون للأسماء وهي
الأصل فكانت أصلا والأصل في حركات البناء أن تكون للأفعال والحروف وهي
الفرع فكانت فرعا وذهب آخرون إلى أن حركات البناء هي الأصل وأن حركات
الإعراب فرع عليها ! لأن حركات البناء لا تزول ولا تتغير عن حالها وحركات
الإعراب تزول وتتغير لا يتغير أولى بأن يكون أصلا مما يتغير. (1/12)
فإن قيل هل الإعراب والبناء عبارة عن هذه الحركات أو عن غيرها قيل الإعراب
والبناء ليسا عبارة عن هذه الحركات و إنما هما معنيان يعرفان
بالقلب ليس للفظ فيهما حظ.
ألا ترى أنك تقول في حد الإعراب هو اختلاف أواخر الكلم باختلاف العوامل
وفي حد البناء لزوم أواخر الكلم حركة أو سكونا ولا خلاف أن الاختلاف
واللزوم ليسا بلفظين وإنما هما معنيان يعرفان بالقلب ليس للفظ فيهما حظ
والذي يدل على ذلك أن هذه الحركات إذا وجدت بغير صفة الاختلاف لم تكن
للأعراب و إذا وجدت بغير صفة اللزوم لم تكن للبناء فدل على أن الإعراب هو
الاختلاف والبناء هو اللزوم والذي يدل على صحة هذا إضافة هذه الحركات إلى
الإعراب والبناء فيقال حركات الإعراب وحركات البناء ولو كانت الحركات
أنفسها هي الإعراب أو البناء لما جاز أن يضاف إليه لأن إضافة الشيء إلى
نفسه لا تجوز ألا ترى أنك لو قلت حركات الحركات لم يجز فلما جاز أن يقال
حركات الإعراب وحركات البناء دل على أنهما غيرها فاعرفه تصب إن شاء الله
تعالى.
*****باب
المعرب و المبني***** (1/13)
إن قال قائل ما المعرب والمبني قيل أما المعرب فهو ما تغير آخره بتغير
العامل فيه لفظا أو تقديرا وهو على ضربين اسم متمكن وفعل مضارع فالاسم
المتمكن ما لم يشابه الحرف ولم يتضمن معناه والفعل المضارع ما كانت في
أوله إحدى الزوائد الأربع و هي الهمزة والنون والتاء و ا لياء فإن قيل لم
زيدت هذه الأحرف دون غيرها قيل لأن الأصل أن تزاد حروف المد واللين وهي
الواو والياء والألف إلا أن الألف لما لم يمكن زيادتها أولا لأن الألف لا
تكون إلا ساكنة والابتداء بالساكن محال أبدلوا منها الهمزة لقرب مخرجيهما
لأنهما هوائيان يخرجان من أقصى الحلق وكذلك الواو ايضا لما لم يمكن
زيادتها أولا لأنه ليس في كلام العرب واو زيدت أولا أبدلوا منها التاء
لأنها تبدل منها كثيرا ألا ترى أنهم قالوا تراث
وتجاه وتخمة وتهمة وتيقور وتولج قال الشاعرا - من الرجز -
( متخذا من عضوات تولجا ... )
وهو بيت الصائد والأصل وراث ووجاه ووخمة ووهمة وويقور لأنه من الوقار
ووولج لأنه من الولوج فأبدلوا التاء من الواو في هذه المواضع كلها وكذلك
ههنا.
وأما الياء فزيدت لأنها لم يعرض فيها ما يمنع من زيادتها كما عرض في الألف
والواو وأما النون فإنما زيدت لأنها تشبه حروف المد واللين وتزاد معها في
باب الزيدين و الزيدين.
والتحقيق في ترتيب هذه الأحرف أن تقدم الهمزة ثم النون ثم التاء ثم الياء
وذلك لأن الهمزة للمتكلم وحده والنون للمتكلم ولمن معه والتاء للمخاطب
والياء للغائب والأصل أن يخبر الإنسان عن نفسه ثم عن نفسه وعمن معه ثم
المخاطب ثم الغائب فهذا هو التحقيق في ترتيب هذه الأحرف في أول الفعل
المضارع.
فإن قيل فالفعل المضارع محمول
على الاسم في الإعراب أم هو اصل فيه قيل لا بل هو محمول على الاسم في
الإعراب وليس بأصل فيه لأن الأصل في الإعراب أن يكون للأسماء دون الأفعال
والحروف وذلك لأن الأسماء تتضمن معاني مختلفة نحو الفاعلية والمفعولية
والإضافة فلو لم تعرب لالتبست هذه المعاني بعضها ببعض يدلك على ذلك أنك لو
قلت ما أحسن زيدا لكنت متعجبا ولو قلت ما أحسن زيد لكنت نافيا ولو قلت ما
أحسن زيد لكنت مستفهما ا فلو لم تعرب في هذه المواضع لالتبس التعجب بالنفي
والنفي بالاستفهام واشتبهت هذه المعاني بعضها ببعض وإزالة الالتباس واجب. (1/14)
وأما الأفعال والحروف فإنها تدل على ما وضعت له بصيغها فعدم الإعراب لا
يخل بمعانيها ولا يورث لبسا فيها والإعراب زيادة والحكيم لا يزيد شيئا
لغير فائدة فإن قيل فإذا كان الأصل في الفعل المضارع أن يكون مبنيا فلم
حمل على الاسم في الإعراب قيل إنما حمل الفعل المضارع على الاسم في
الإعراب لأنه ضارع الاسم ولهذا سمي مضارعا والمضارعة المشابهة ومنها سمي
الضرع ضرعا لأنه يشابه أخاه ووجه المشابهة بين هذا الفعل والاسم من خمسة
أوجه الوجه الأول أنه يكون شائعا فيتخصص كما أن الاسم يكون شائعا فيتخصص،
ألا ترى أنك تقول يقوم فيصلح
للحال والاستقبال فإذا أدخلت
عليه السين أو سوف اختص بالاستقبال كما أنك تقول رجل فيصلح لجميع الرجال
فإذا أدخلت عليه الألف واللام اختص برجل بعينه فلما اختص هذا الفعل بعد
شياعه كما أن الاسم يختص بعد شياعه فقد شابهه من هذا والوجه الوجه الثاني
أنه تدخل عليه لام الابتداء كما تدخل على الاسم ألا ترى أنك تقول أن زيدا
ليقوم كما تقول أن زيدا لقائم ولام الابتداء تختص بالأسماء فلما دخلت على
هذا الفعل دل على مشابهة بينهما والذي يدل على ذلك أن فعل الأمر والفعل
الماضي لما بعدا عن شبه الاسم لم تدخل هذه اللام عليهما ألا ترى أنك لو
قلت لأكرم زيدا يا عمرو أو إن زيدا لقام لكان خلفا من القول والوجه الثالث
أن هذا الفعل يشترك فيه الحال والاستقبال فأشبه الأسماء المشتركة كالعين
ينطلق على العين الباصرة وعلى عين الماء وعلى غير ذلك و الوجه الرابع أنه
يكون صفة كما يكون الاسم كذلك تقول مررت برجل يضرب كما تقول مررت برجل
ضارب، فقد قام يضرب مقام ضارب والوجه الخامس أن الفعل المضارع يجري على
اسم الفاعل في حركاته وسكونه ألا ترى أن يضرب على وزن ضارب في حركاته
وسكونه ولهذا عمل اسم الفاعل عمل الفعل، فلما أشبه الفعل المضارع
(1/15)
الاسم من هذه الأوجه استحق
جملة الإعراب الذي هو الرفع والنصب والجزم ولكل واحد من هذه الأنواع عامل
يختص به أما عامل الرفع فاختلف النحويون فيه فذهب البصريون إلى أنه يرتفع
لقيامه مقام الاسم وهو عامل معنوي لا لفظي فأشبه الابتداء وكما أن
الابتداء يوجب الرفع فكذلك ما أشبهه فإن قيل هذا ينتقض بالفعل الماضي فإنه
يقوم مقام الاسم ولا يرتفع قيل إنما لم يرتفع لأنه لم يثبت له استحقاق
جملة الإعراب فلم يكن هذا العامل موجبا له الرفع لأنه نوع منه بخلاف الفعل
المضارع فإنه يستحق جملة الإعراب للمشابهة التي ذكرناها قبل فبان الفرق
بينهما وأما الكوفيون فاختلفوا فذهب الكسائي إلى أنه يرتفع بالزائد في
أوله وذهب الفراء إلى أنه يرتفع لسلامته من العوامل الناصبة والجازمة فأما
قول الكسائي فظاهر الفساد لأنه لو كان الزائد في أوله ا هو الموجب للرفع
لوجب ألا يجوز نصب الفعل ولا جزمه مع وجوده لأن عامل النصب والجزم لا يدخل
على عامل الرفع فلما وجب نصبه بدخول النواصب و جزمه بدخول الجوازم دل على
أن الزائد ليس هو العامل وأما قول الفراء فلا ينفك من ضعف وذلك لأنه يؤدي
إلى أن يكون النصب والجرم قبل الرفع لأنه قال لسلامته ملي العوامل الناصبة
والجازمة والرفع قبل النصب والجزم فلهذا كان هذا القول ضعيفا وأما عوامل
النصب فنحو أن ولن وكي وإذن وأما عوامل الجزم فنحو لم ولما ولام الأمر ولا
في النهى.
(1/16)
ولعوامل النصب والجزم موضع
نذكرها فيه إن شاء الله تعالى. (1/17)
وأما المبني فهو ضد المعرب وهو ما لم يتغير آخره بتغير العامل فيه فمن ذلك
الاسم غير المتمكن و الفعل غير المضارع فأما الاسم غير المتمكن فنحو من
وكم وقبل وبعد وأين كيف وأمس وهؤلاء وإنما بنيت هذه الأسماء لأنها أشبهت
الحروف أو تضمنت معناها فأما من فإنها بنيت لأنها لا تخلو إما أن تكون
استفهامية أو شرطيه أو اسما موصولا أو نكرة موصوفة فإن كانت استفهامية فقد
تضمنت معنى حرف الاستفهام وان كانت شرطية فقد تضمنت معنى حرف الشرط وإن
كانت اسما موصولا فقد تنزلت منزلة بعض الكلمةا وبعض الكلمة مبني وان كانت
نكرة موصوفة فقد تنزلت منزلة الموصولة وأما كم فإنما بيت لأنها لا تخلو
إما أن تكون استفهامية أوخبرية فإن كانت استفهامية فقد تضمنت معنى حرف
الاستفهام وإن كانت خبرية فهي نقيضة رب لأن رب للتقليل و كم للتكثير وهم
يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره وبنيت من و كم على السكون
لأنه الأصل في البناء ولم يعرض فيهما ما يوجب بناءهما على حركة فبقيا على
الأصل.
وأما قبل وبعد فإنما بنيا لأن الأصل فيهما أن يستعملا مضافين إلى ما
بعدهما فلما اقتطعا عن الإضافة والمضاف مع المضاف إليه بمنزلة كلمة واحدة
تنزلا منزلة بعض الكلمة وبعض الكلمة مبني قال الله تعالى لله ( الأمر من
قبل ومن بعد ) و إنما بنيا على حركة لأن كل واحد منهما كان له حالة إعراب
قبل البناء فوجب أن يبنيا على حركة تمييزا لهما على ما بني وليس له حالة
إعراب نحو من وكم وقيل إنما بنيا على حركة لالتقاء الساكنين والقول الصحيح
هو الأول فإن قيل فلم كانت الحركة ضمة قيل لوجهين أحدهما أنه لما حذف
المضاف إليه بنيا على أقوى الحركات وهي الضمة تعويضا عن المحذوف وتقوية
لهما.
والوجه الثاني إنما بنوهما
على الضم لأن النصب والجر يدخلهما نحو جئت قبلك ومن قبلك وأما الرفع فلا
يدخلهما البتة فلو بنوهما على الفتح أو الكسر لالتبست حركة الإعراب بحركة
البناء فبنوهما على حركة لا تدخلهما وهي الضمة لئلا تلتبس حركة الإعراب
بحركة البناء وأما أين و كيف فإنما بنيا لأنهما تضمنا معنى حرف الاستفهام
لأن أين سؤال عن المكان و كيف سؤال عن الحال فلما تضمنا معنى حرف
الاستفهام وجب أن يبنيا وإنما بنيا على حركة لالتقاء الساكنين وإنما كانت
الحركة فتحة لأنها أخف الحركات وأما أمس فإنما بنيت لأنها تضمنت معنى لام
التعريف لأن الأصل في أمس الأمس فلما تضمنت معنى اللام تضمنت معنى الحرف
فوجب أن تبنى وإنما بنيت على حركة لالتقاء الساكنين وإنما كانت الحركة
كسرة لأنها الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين ومن العرب من يجعل أمس
معدولة عن لام التعريف فيجعلها غير مصروفة قال الشاعر - من الرجز:
(1/18)
( لقد رأيت عجبا مذ أمسا
عجائزا مثل السعالي قعسا ) وأما هؤلاء فإنما بنيت لتضمنها معنى حرف
الاشارة وأن لم ينطق به لأن الأصل في الإشارة أن تكون بالحرف كالشرط
والنفي والتمني والعطف إلى غير ذلك من المعاني إلا أنهم لما لم يفعلوا ذلك
ضمنوا هؤلاء معنى حرف الإشارة فبنوها ونظير هؤلاء ما التي في التعجب فإنها
بنيت لتضمنها معنى حرف التعجب وان لم يكن له حرف ينطق به لأن الأصل في
التعجب أن يكون بالحرف كغيره من المعاني إلا أنهم لما لم يفعلوا ذلك ضمنوا
ماا معنى حرف التعجب فبنوها كما بنوا ما إذا تضمنت معنى حرف الاستفهام
والشرط فكذلك ههنا وأما الفعل غير المضارع فهو على ضربين أحدهما الفعل
الماضي والآخر فعل الأمر فأما الفعل الماضي فنحو ذهب وعلم وشرف واستخرج
ودحرج واحرنجم وأما فعل الأمر فنحو اذهب واعلم واشرف واستخرج ودحرج
واحرنجم وسنذكر لم بني الفعل الماضي على الفتح ولم بني فعل الأمر على
الوقف وخلاف النحويين فيه في بابه إن شاء الله تعالى وأما الحروف فكلها
مبنية لم يعرب منها شيء لبقائها على اصلها في البناء فاعرفه تصب إن شاء
الله تعالى.
(1/19)
****باب
إعراب الاسم***** (1/20)
المفرد إن قال قائل على كم ضربا الاسم المفرد قيل على ضربين صحيح ومعتل
فالصحيح في عرف النحويين ما لم يكن آخره الفا ولا ياء قبلها كسرة نحو رجل
وفرس وما أشبه ذلك وهو على ضربين منصرف وغير منصرف فالمنصرف ما دخله
الحركات الثلاث مع التنوين نحو هذا زيد و رأيت زيدا و مررت بزيد وهذا
الضرب يسمى الأمكن وقد يسمى أيضا متمكنافإن قيل لم جعلوا التنوين علامة
للصرف دون غيره قيل لأن أولى ما يزاد حروف المد واللين وهي الألف والياء
والواو إلا أنهم عدلوا عن زيادتها إلى التنوين لما يلزم من اعتلالها
وانتقالها ألا ترى أنهم لو جعلوا الواو علامة للصرف لانقلبت ياء في الجر
لانكسار ما قبلها وكذلك حكم الياء والألف في الاعتلال والانتقال من حال
إلى حال وكان التنوين أولى من غيره لأنه خفيف يضارع حروف العلة ألا ترى
أنه غنة في الخيشوم وأنه لا معتمد له في الحلق الحق فأشبه الألف إذ كان
حرفا هوائيا فإن قيل ولماذا دخل التنوين الكلام قيل اختلف النحويون في
ذلك،فذهب سيبويه إلى أنه دخل الكلام علامة للأخف عليهم و الأمكن عندهم و
ذهب بعض النحويين إلى أنه دخل فرقا بين الفعل والاسم وذهب آخرون إلى أنه
دخل فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف وأما غير المنصرف فما لم يدخله الجر
مع التنوين وكان ثانيا من جهتين نحو مررت بأحمد و إبراهيم وما أشبه ذلك
وإنما منع هذا الضرب من الأسماء الصرف لأنه أشبه الفعل فمنع من التنوين
ومنع من الجر تبعا للتنوين لما بينهما من المصاحبة وذهب بعض النحويين إلى
أنه منع الجر لأنه أشبه الفعل والفعل لا يدخله جر ولا تنوين فكذلك ما
أشبهه وهذا الضرب يسمى المتمكن ولا يسمى أمكن و كل أمكن متمكن وليس كل
متمكن أمكن فإن قيل فلم يدخل الجر مع الألف واللام والإضافة قيل للأمن من
دخول التنوين مع الألف واللام والإضافة وسترى هذا في موضعه إن شاء الله
تعالى والمعتل ما كان آخره ألفا أو ياء قبلها كسرة وهو على ضربين منقوص و
مقصور
أما المنقوص فما كان في آخره
ياء خفيفة قبلها كسرة وذلك نحو القاضي و الداعي فإن قيل فلم سمي منقوصا
قلا لأنه نقص الرفع والجر تقول هذا قاض يا فتى ومررت بقاض يا فتى والأصل
هذا قاضي ومررت بقاضي إلا أنهم استثقلوا الضمة والكسرة على الياء فحذفوهما
فبقيت الياء ساكنة والتنوين ساكن فحذفوا الياء لالتقاء الساكنين وكان حذف
الياء أولى من حذف التنوين لوجهين أحدهما أن الياء إذا حذفت بقي في اللفظ
ما يدل عليها وهي الكسرة بخلاف التنوين فإنه لو حذف لم يبق في اللفظ ما
يدل على حذفه فلما وجب حذف أحدهما كان حذف ما في اللفظ دلالة على حذفه
أولى. (1/21)
و الثاني أن التنوين دخل لمعنى وهو الصرف وأما الياء فليست كذلك فلما وجب
حذف أحدهما كان حذف ما لم يدخل لمعنى أولى من حذف ما دخل لمعنى وأما إذا
كان منصوبا فهو بمنزلة الصحيح لخفة الفتحة فإن قيل الحركات كلها تستثقل
على حرف العلة بدليل قولهم باب وناب والأصل فيهما بوب ونيب إلا أنهم
استثقلوا الفتحة على الواو والياء فقلبوا كل واحدة منهما ألفا قيل الفتحة
في هذا النحو لازمة ليست بعارضة بخلاف الفتحه التي على ياء قاض فإنها
عارضة وليست بلازمة فلهذا المعنى استثقلوا الفتحة في نحو باب وناب ولم
يستثقلوها في نحو قاض
فإن وقفت على المرفوع
والمجرور من هذا الضرب كان لك فيه مذهبان إسقاط الياء وإثباتها واختلف
النحويون في الأجود منهما فذهب سيبويه إلى أن حذف الياء أجود إجراء للوقف
على الوصل لأن الوصل هو الأصل وذهب يونس إلى أن إثبات الياء أجود لأن
الياء إنما حذفت لأجل التنوين ولا تنوين في الوقف فوجب رد الياء وقد قرأ
بهما القراء قال تعالى ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) بغير ياء وقد
قرأ بعضهم بالياء فإن كان منصوبا أبدلت من تنوينه ألفا كالأسماء المنصرفة
الصحيحة فتقول رأيت قاضيا كما تقول رأيت ضاربا فإن كان فيه ألف ولام كان
حكمه في الوصل حكم ما ليس فيه ألف ولام في حذف الضمة والكسرة ودخول الفتحة
وكان لك أيضا في الوقف في حالة الرفع والجر إثبات الياء و حذفها واثبات
الياء أجود الوجهين لأن التنوين لا يجوز أن يثبت مع الألف واللام فإذا
زالت علة إسقاط الياء وجب أن تثبت وكان يعض العرب يقف بغير ياء وذلك أنه
قدر حذف الياء في قاض ونحوه ثم أدخل عليه الألف واللام وبقي الحذف على
حاله وهذا ضعيف جدا وقد قرأ به بعض القراء قال تعالى:( أجيب دعوة الداع
إذا دعان ) فإن كان منصوبا لم يكن الوقف عليه إلا بالياء قال الله تعالى (
كلا إذا بلغت التراقي ) وذلك لأنه تنزلي بالحركة منزلة الحرف الصحيح فتحصن
بها من الحذف (1/22)
وأما المقصور فهو المختص بألف مفردة في آخره نحو الهوى والهدى والدنيا
والأخرى وسمي مقصورا لأن حركات الإعراب قصرت عنه أي حبست والقصر الحبس
ومنه يقال امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة قال الله تعالى ( حور مقصورات في
الخيام ) أي محبوسات وقال الشاعر وأنت التي حببت كل قصيرة ... إلي ولم
تعلم بذاك الفصائر )
( عنيت قصيرات الحجال ولم أرد
... قصار الخطا شر النساء البهاتر ) - من الطويل - ويروي قصورة والبهاتر
القصار ويروي البحاتر وهما بمعنى واحد وهو على ضربين منصرف وغير منصرف
فالمنصرف ما دخله التنوين وذلك نحو هذه رحى وعصا و رأيت رحى وعصا ومررت
برحى وعصا والأصل فيه رحى وعصو إلا أن الياء والواو لما تحركا وانفتح ما
قبلهما قلبا ألفين وحذفت الألف منهما لسكونها وسكون التنوين وكان حذفها
أولى لما ذكرناه في حذف الياء من نحو قاض فإن وقفت على شيء من هذا الضرب
فقد اختلف النحويون فيه على مذاهب: (1/23)
فذهب سيبويه إلى أن الوقف في حالة الرفع والجر على الألف المبدلة من الحرف
الأصلي وفي حالة النصب على الألف المبدلة من التنوين حملا للمعتل على
الصحيح وذهب أبو عثمان المازني إلى أن الوقف في الأحوال الثلاثة على الألف
المبدلة من التنوين لأنهم إنما خصوا الإبدال بحال النصب في الصحيح لأنه
يؤدي إلى الألف التي هي أخف الحروف ولم يبدلوا في حالة الرفع والجر لأنه
يفضي إلى الثقل واللبس وذلك غير موجود هنا لأن ما قبل التنوين ههنا لا
يكون إلا مفتوحا فأبدلوا منه ألفا لأنه لا يجلب ثقلا ولا يوجب لبسا وذهب
أبو سعيد السيرافي إلى أن الوقف في الأحوال الثلاثة على الألف المبدلة من
الحرف الأصلي وذلك لأن بعض القراء ج يميلونها في قوله تعالى ( أو أجد على
النار هدى ) ولو كانت مبدلة من التنوين لما جازت إمالتها ألا ترى أنك لو
أملت الألف في نحو رأيت عمرا لكان غير جائز فلما جازت الإمالة ههنا دل على
أنها مبدلة من الحرف الأصلي لا من التنوين وغير المنصرف ما لم يلحقه
التنوين وذلك نحو حبلى وبشرى و سكرى وتثبت فيه الألف وصلا
ووقفا إذ ليس يلحقها تنوين
تحذف من اجله فإن لقيها ساكن من كلمة أخرى حذفت لالتقاء الساكنين فإن قيل
لم أعربت الأسماء الستة المعتلة بالحروف ا وهي أسماء مفردة قيل إنما أعربت
بالحروف توطئة لما يأتي من باب التثنية والجمع فإن قيل فلم كانت هذه
الأسماء أولى بالتوطئة من غيرها قيل لأن هذه الأسماء منها ما تغلب عليه
الإضافة ومنها ما تلزمه الإضافة. (1/24)
فما تغلب عليه الإضافة أبوك و أخوك وحموك وهنوك وما تلزمه الإضافة فوك وذو
مال والإضافة فرع على الإفراد كما أن التثنية والجمع فرع على المفرد فلما
وجدت بينهما المشابهة من هذا الوجه كانت أولى من غيرها ولما وجب أن تعرب
بالحروف لهذه المشابهة أقاموا كل حرف مقام ما يجانسه من الحركات فجعلوا
الواو علامة للرفع والألف علامة للنصب والياء علامة للجر وذهب الكوفيون
إلى أن الواو والضمة قبلها علامة للرفع و الألف والفتحة قبلها علامة للنصب
والياء والكسرة قبلها علامة للجر فجعلوه معربا من مكانين وقد بينا فساده
في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين.
وذهب بعض النحويين إلى أن هذه الأسماء إذا كانت في موضع رفع كان فيها نقل
بلا قلب وإذا كانت في موضع نصب كان فيها قلب بلا نقل و إذا كانت في موضع
جر كان فيها نقل وقلب ألا ترى أنك إذا قلت هذا أبوك كان الأصل فيه هذا
أبوك فنقلت الضمة من الواو إلى ما قبلها فكان فيه نقل بلا قلب وإذا قلت
رأيت أباك كان الأصل فيه رأيت أبوك فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت
الواو ألفا فكان فيه قلب بلا نقل وإذا قلت مررت بأبيك كان الأصل فيه مررت
بأبوك فنقلت الكسرة من الواو إلى ما قبلها وانقلبت الواو ياء لسكونها
وانكسار ما قبلها فكان فيه نقل وقلب وذهب بعض النحويين إلى أن الياء
والواو والألف نشأت عن إشباع الحركات كقول الشاعر - من البسيط -
( الله يعلم أنا في تلفتنا
... يوم الفراق إلى إخواننا صور ) و إنني حيثما يثني الهوى بصري من حيثما
سلكوا أدنو فأنظور أراد فأنظر فاشبع الضمة فنشأت الواو كما قال الآخر في
إشباع الفتحة - من الوافر - و أنت من الغوائل حين ترمي ومن ذم الرجال
بمنتزاح أراد بمنتزح فأشبع الفتحة فنشأت الألف وكما قال الآخر في إشباع
الكسرة - من البسيط - (1/25)
( تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفى الدراهيم تنقاد الصياريف ... ) أراد
الصيارف فأشبع الكسرة فنشأت الياء والشواهد على إشباع الضمة والفتحة
والكسرة كثيرة جدا وهذا القول ضعيف لأن إشباع الحركات إنما يكون في ضرورة
الشعر كهذه الأبيات وأما في حالة الاختيار فلا يجوز ذلك بالإجماع فلما جاز
ههنا في حالة الاختيار أن تقول هذا أبوه ورأيت أباه ومررت بأبيه دل على أن
هذه الحروف ما نشأت عن إشباع الحركات وقد يحكى عن بعض العرب أنهم يقولون
هذا أبك و رأيت أبك ومررت بأبك من غير واو ولا ألف ولا ياء ويحكى عن بعض
العرب أنهم يقولون هذا أباك ورأيت أباك ومررت بأباك بالألف في حالة الرفع
والنصب والجر كقوله من الرجز
( ان أباها وابا أباها ... ) والذي يعتمد عليه هو القول الأول وقد بينا
ذلك مستقصى في كتابنا الموسوم بـ الأسماء في شرح الأسماء إن شاء الله
تعالى.
*****باب
التثنية و الجمع***** (1/26)
إن قال قائل ما التثنية قيل التثنية صيغة مبنية للدلالة على الاثنين واصل
التثنية العطف تقول قام الزيدان وذهب العمران والأصل فيه قام زيد وزيد
وذهب عمرو وعمرو إلا أنهم حذفوا أحدهما وزادوا على الآخر زيادة دالة على
التثنية طلبا للإيجاز والاختصار.
والذي يدل على أن الأصل هو العطف أنهم يفكون التثنية في حال الاضطرار
ويعدلون عنها إلى التكرار كقوله - من الرجز -( كأن بين فكها والفك ...
فارة مسك ذبحت في سك )
وكقول الآخر - من الرجز -( كان بين خلفها والخلف ... كشة افعي في يبس قف )
وكقول الآخر - من الرجز - ليث وليث في مجال ضنك أراد ليثان إلا أنه عدل
إلى التكرار في حالة الاضطرار لأنه الأصل - فإن قيل ما الجمع قيل صيغة
مبنية للدلالة على العدد الزائد على الاثنين والأصل فيه أيضا العطف
كالتثنية إلا أنهم لما عدلوا عن التكرار في التثنية طلبا للاختصار كان ذلك
في الجمع أولى.
فإن قيل فلم كان إعراب التثنية والجمع بالحروف دون الحركات قيل لأن
التثنية والجمع فرع على المفرد و الإعراب بالحروف فرع على الحركات فكما
أعرب المفرد الذي هو الأصل بالحركات التي هي الأصل فكذلك أعرب التثنية
والجمع اللذان هما فرع بالحروف التي هي فرع فأعطي الفرع الفرع كما أعطي
الأصل الأصل و كانت الألف والواو والياء أولى من غيرها لأنها أشبه الحروف
بالحركات.
فإن قيل فلم خصوا التثنية في حال الرفع بالألف والجمع السالم بالواو
وأشركوا بينهما في الجر والنصب قيل إنما خصوا التثنية بالألف والجمع
بالواوا لأن التثنية اكثر من الجمع لأنها تدخل على من يعقل وعلى ما لا
يعقل وعلى الحيوان وعلى غير الحيوان من الجماد والنبات بخلاف الجمع السالم
فإنه في الأصل لأولي العلم خاصة فلما كانت التثنية أكثر والجمع أقل جعلوا
الأخف وهو الألف للأكثر والأثقل وهو الواو للأقل ليعادلوا بين التثنية
والجمع وإنما أشركوا بينهما في النصب والجر لأن التثنية والجمع لهما ستة
أحوال و ليس إلا ثلاثة أحرف فوقعت الشركة ضرورة
فإن قيل هل النصب محمول على الجر أو الجر محمول على النصب قيل بل النصب
محمول على الجر لأن دلالة الياء على الجر أشبه من دلالتها على النصب لأن
الياء من جنس الكسرة والكسرة في الأصل تدل على الجر فكذلك ما أشبهها.
فإن قيل فلم حمل النصب على
الجر دون الرفع قيل لخمسة أوجه الوجه الأول أن الجر ألزم للأسماء من الرفع
لأنه لا يدخل على الفعل فلما وجب الحمل على أحدهما كان حمله على الإلزام
أولى من حمله على غيره (1/27)
والوجه الثاني أنهما يقعان في الكلام فضلة ألا ترى أنك تقول مررت فلا
يفتقر إلى أن تقول بزيد أو نحوه كما أنك إذا قلت رأيت لا يفتقر إلى أن
تقول زيدا أو نحوه والوجه الثالث أنهما يشتركان في الكتابة نحو رأيتك و
مررت بك والوجه الرابع أنهما يشتركان في المعنى تقول مررت بريد فيكون في
معنى جزت زيدا والوجه الخامس أن الجر أخف من الرفع فلما أرادوا الحمل على
أحدهما كان الحمل على الأخف أولى من الحمل على الأثقل ويحتمل عندي وجها
سادسا وهو أن النصب من أقصى الحلق والجر من وسط الفم والرفع من الشفتين
فكان النصب إلى الجر اقرب من الرفع لأن أقصى الحلق اقرب إلى وسط الفم من
الشفتين فلما أرادوا حمل النصب على أحدهما كان حمله على الأقرب أولى من
حمله على الأبعد والجار أحق بصقبه والذي يدل على اعتبار هذه المناسبة
بينهما أنهم لما حملوا النصب على الجر في باب التثنية والجمع حملوا الجر
على النصب في باب ما لا ينصرف.
فإن قيل فما حرف الإعراب في التثنية والجمع قيل اختلف النحويون في ذلك
فذهب سيبويه إلى أن الألف والواو والياء هي حروف الإعراب
وذهب ابو الحسن الأخفش و أبو
العباس المبرد ومن تابعهما إلى أنها تدل على الإعراب وليست بإعراب ولا
حروف إعراب وذهب أبو عمر الجرمي إلى أن انقلابها هو الإعراب وذهب قطرب
والفراء والزيادي إلى أنها هي الإعراب والصحيح هو الأول وأما من ذهب إلى
أنها تدل على الإعراب وليس بحروف إعراب ففاسد لأنه لا يخلو إما أن تدل على
الإعراب في الكلمة أو في غيرها فإن كانت تدل على الإعراب في الكلمة فلا بد
من تقديره فيها فيرجع هذا القول إلى القول الأول وهو مذهب سيبويه وان كانت
تدل على إعراب في غير الكلمة فليس بصحيح لأنه يؤدي إلى أن يكون التثنية
والجمع مبنيين وليس بمذهب لقائل هذا القول وإلى أن يكون إعراب الكلمة ترك
إعرابها وذلك محال. (1/28)
وأما من ذهب إلى أن انقلابها هو الإعراب فقد ضعفه بعض النحويين لأنه يؤدي
إلى أن يكون المثنية والجمع مبنيين في حال الرفع لأنه لم ينقلب عن غيره إذ
أول أحوال الاسم الرفع وليس من مذهب هذا القائل بناء التثنية
والجمع في حال من الأحوال من
ذهب إلى أنها أنفسها هي الإعراب فظاهر الفساد وذلك لأن الإعراب لا يخل
سقوطه ببناء الكلمة و لو أسقطنا هذه الأحرف لبطل معنى التثنية والجمع
واختل معنى الكلمة فدل ذلك على أنها ليست بأعراب وإنما هي حروف إعراب على
ما بيناه فإن قيل فلم فتحوا ما قبل ياء التثنية دون ياء الجمع قيل لثلاثة
اوجه الوجه الأول أن التثنية أكثر من الجمع على ما بينا فلما كانت التثنية
اكثر من الجمع والجمع أقل أعطوا الأكثر الحركة الخفيفة وهي الفتحة والأقل
الحركة الثقيلة وهي الكسرة والوجه الثاني أن حرف التثنية لما زيد على
الواحد للدلالة على التثنية أشبه تاء التأنيث التي تزاد على الواحد
للدلالة على التأنيث وتاء التأنيث يفتح ما قبلها فكذلك ما أشبهها وكانت
التثنية أولى بالفتح لهذا المعنى من الجمع لأنها فبل الجمع والوجه الثالث
أن بعض علامات التثنية الألف والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا ففتحوا
ما قبل الياء لئلا يختلف إذ لا علة ههنا توجب المخالفة (1/29)
فإن قيل فلم أدخلت النون في التثنية والجمع قيل اختلف النحويون في ذلك:
فذهب سيبويه إلى أنها بدل من الحركة والتنوين وذهب بعض النحويين إلى أنها
تكون على ثلاثة أضرب فتارة تكون بدلا من الحركة والتنوين وتارة تكون بدلا
من الحركة دون التنوين وتارة تكون بدلا من التنوين دون
الحركة فكونها بدلا من الحركة
والتنوين ففي نحو رجلان وفرسان وكونها بدلا من الحركة دون التنوين ففي نحو
الرجلان والفرسان وكونها بدلا من التنوين فقط ففي نحو رحيان وعصوان وذهب
بعض الكوفيين إلى أنها زيدت للفرق بين التثنية وبين الواحد المنصوب في نحو
قولك رأيت زيدا فإن قيل فلم كسروا نون التثنية وفتحوا نون الجمع قيل للفرق
بينهما مع تباين صيغتيهما فإن قيل وما الحاجة إلى الفرق بينهما مع تباين
صيغتيهما قيل لأنهم لو لم يكسروا نون المثنية ويفتحوا نون الجمع لالتبس
جمع المقصور في حالة الجر والنصب بتثنية الصحيح ألا ترى أنك تقول في جمع
مصطفى رأيت مصطفين ومررت بمصطفين قال الله تعالى ( وأنهم عندنا لمن
المصطفين الأخيار) فلفظ مصطفين كلفظ زيدين فلو لم يكسروا نون التثنية
ويفتحوا نون الجمع لالتبس هذا الجمع بهذه التثنية فإن قيل فهلا عكسوا
ففتحوا نون المثنية وكسروا نون الجمع وكان الفرق حاصلا قيل لثلاثة اوجه
الوجه الأول أن نون التثنية تقع بعد ألف أو ياء مفتوح ما قبلها فلم
يستثقلوا فيها الكسرة وأما نون الجمع فإنها تقع بعد واو مضموم ما قبلها أو
ياء مكسور ما قبلها فاختاروا لها الفتحة لتعادل خفة الفتحة ثقل الواو
والضمة والياء والكسرة و لو عكسوا ذلك لأدى ذلك إلى الاستثقال إما لتوالي
الأجناس وأما للخروج من ضم إلى كسر والوجه الثاني أن التثنية قبل الجمع
والأصل في التقاء الساكنين الكسر فحركت نون التثنية بما وجب لها في الأصل
وفتحت نون الجمع لأن الفتح أخف من الضم والوجه الثالث أن الجمع أثقل من
التثنية والكسر اثقل من الفتح فأعطوا الأخف الأثقل والأثقل الأخف ليعادلوا
بينهما فإن قيل فلم قلتم أن الأصل في الجمع السالم أن يكون لمن يعقل قيل
تفضيلا لهم لأنهم المقدمون على سائر المخلوقات بتكريم الله تعالى لهم
وتفضيله إياهم قال الله تعالى ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر
والبحر
(1/30)
ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم
على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (1/31)
فإن قيل فلم جاء هذا الجمع في الأعداد من العشرين إلى التسعين قيل إنما
جاء هذا الجمع في الأعداد من العشرين إلى التسعين لأن الأعداد لما كانت
تقع على من يعقل نحو عشرون رجلا وعلى ما لا يعقل نحو عشرون ثوبا وكذلك إلى
التسعين غلب جانب من يعقل على ما لا يعقل كما يغلب جانب المذكر على المؤنث
في نحو أخواك هند وعمرو وما أشبه ذلك فإن قيل فمن أين جاء هذا الجمع في
قوله تعالى ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين )
قيل لأنه لما وصفهما بالقول والقول من صفات من يعقل أجراهما مجرى من يعقل
وعلى هذا قوله تعالى ( إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي
ساجدين ) لأنه لما وصفها بالسجود وهو من صفات من يعقل أجراها مجرى من يعقل
فلهذا جمعت جمع من يعقل.
فإن قيل فلم جاء هذا الجمع في قولهم في جمع أرض أرضون و في جمع سنة سنون
قيل لأن الأصل في أرض أرضة بدليل قولهم في التصغير أريضة وكان القياس
يقتضي أن تجمع بالألف والتاء إلا أنهم لما حذفوا التاء من أرض جمعوه
بالواو والنون تعويضا من حذف التاء وتخصيصا له بشيء لا يكون في سائر
أخواته وكذلك الأصل في سنة سنوة بدليل قولهم في الجمع سنوات أو سنهة على
قول بعضهم إلا أنهم لما حذفوا اللام جمعوه بالواو والنون تعويضا من حذف
اللام وتخصيصا له بشيء في التام وهذا وهذا التعويض تعويض جواز لا تعويض
وجوب لأنهم لا يقولون في جمع شمس شمسون ولا في جمع غد غدون ولهذا لما كان
هذا الجمع في أرض وسنة على خلاف الأصل ادخل فيه ضرب من التكسير ففتحت
الراء من أرضون و كسرت السين من سنون إشعارا بأنه جمع جمع السلامة على
خلاف الأصل فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
جمع التأنيث***** (1/32)
إن قال قائل لم زادوا في آخر هذا الجمع ألفا وتاء نحو مسلمات وصالحات قيل
لأن أولى ما يزاد حروف المد واللين وهي الألف والياء والواو وكانت الألف
أولى من الياء والواو لأنها أخف منهما ولم تجز زيادة أحدهما معها لأنه كان
يؤدي إلى أن ينقلب عن اصله لأنه كان يقع طرفا وقبله ألف زائدة فينقلب همزة
فزادوا التاء بدلا عن الواو لأنها تبدل منها كثيرا نحو تراث و تجاه وتهمة
وتخمة وتكلة و ما أشبه ذلك والأصل في مسلمات وصالحات مسلمتات وصالحتات إلا
أنهم حذفوا التاء لئلا يجمعوا بين كلامتي تأنيث في كلمة واحدة و إذا كانوا
قد حذفوا التاء مع المذكر في نحو قولهم رجل بصري وكوفي في النسب إلى
البصرة والكوفة والأصل بصرتي وكوفتي لئلا يقولوا في المؤنث امرأة بصرتية
وكوفتية فيجمعوا بين علامتي تأنيث فلأن يحذفوا ههنا مع تحقق الجمع كان ذلك
من طريق الأولى.
فإن قيل فلم كان حذف التاء الأولى أولى قيل لأنها تدل على التأنيث فقط
والثانية تدل على الجمع والتأنيث فلما كان في الثانية زيادة معنى كان
تبقيتها وحذف الأولى أولى.
فإن قيل فلم لم يحذفوا الألف في جمع حبلى كما حذفوا التاء فيقولوا حبلات
كما قالوا مسلمات قيل لأن الألف تنزلت منزلة حرف من نفس الكلمة لأنها صيغت
عليها في أول أحوالها وأما التاء فليست كذلك لأنها ما صيغت عليها الكلمة
في أول أحوالها وإنما هي بمنزلة اسم ضم إلى اسم كحضرموت وبعلبك وما أشبه
ذلك فإن قيل فلم وجب قلب الألف قيل لأنها لو لم تقلب لكان ذلك يؤدي إلى
حذفها لأنها ساكنة وألف الجمع بعدها ساكن وساكنان لا يجتمعان فيجب حذفها
لالتقاء الساكنين
فإن قيل فلم قلبت الألف ياء
فقيل حبليات ولم تقلب واوا قيل لوجهين أحدهما أن الياء تكون علامة للتأنيث
والواو ليست كذلك فلما وجب قلب الألف إلى أحدهما كان قلبها إلى الياء أولى
من قلبها إلى الواو والوجه الثاني أن الياء أخف من الواو والواو أثقل فلما
وجب قلبها إلى أحدهما كان قلبها إلى الأخف أولى من قلبها إلى الأثقل فإن
قيل فلم قلبوا الهمزة واوا في جمع صحراء فقالوا صحراوات قيل لوجهين أحدهما
أنهم لما أبدلوا من الواو همزة في نحو أقتت وأجوه أبدلوا الهمزة ههنا واوا
لضرب من النقاض والتعويض والوجه الثاني أنهم إنما أبدلوها واوا ولم
يبدلوها ياء لأن الواو ابعد من الألف والياء أقرب إليه منها فلو أبدلوها
ياء لأدى ذلك لى أن تقع ياء بين ألفين فكان اقرب إلى اجتماع الأمثال وهم
إنما قلبوا الهمزة فرارا من اجتماع الأمثال لأنها تشبه الألف وقد وقعت بين
ألفين فإذا كانت الهمزة إنما وجب قلبها فرارا من اجتماع الأمثال وجب قلبها
واوا لأنها ابعد من الياء في اجتماع ا لأمثال فإن قيل لم حمل النصب على
الجر في هذا الجمع قيل لأنه لما وجب حمل النصب على الجر في جمع المذكر
الذي هو الأصل وجب أيضا حمل النصب على الجر في جمع المؤنث الذي هو الفرع
حملا للفرع على الأصل و إذا كانوا قد حملوا أعد ونعد على يعد في الاعتلال
وإن لم يكن فرعا عليه فلأن يحمل جمع المؤنث على جمع المذكر وهو فرع عليه
كان ذلك من طريق الأولى (1/33)
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
جمع التكسير***** (1/34)
إن قال قائل لم سمي جمع التكسير قيل إنما سمي بذلك على التشبيه بتكسير
الآنية لأن تكسيرها إنما هو إزالة التئام أجزائها فلما أزيل نظم الواحد
وفك نضده في هذا الجمع سمي جمع التكسير وهو على أربعة أضرب أحدها أن يكون
لفظ الجمع اكثر من لفظ الواحد والثاني أن يكون لفظ الواحد أكثر من لفظ
الجمع والثالث أن يكون مثله في الحروف دون الحركات والرابع أن يكون مثله
في الحروف و الحركات فأما ما لفظ الجمع أكثر من الواحد فنحو رجل ورجال
ودرهم ودراهم وأما ما لفظ الواحد اكثر من لفظ الجمع فنحو كتاب وكتب وإزار
وأزر وأما ما لفظ الجمع كلفظ الواحد في الحروف دون الحركات فنحو أسد وأسد
ووثن ووثن وأما ما لفظ الجمع مثل لفظ الواحد في الحروف والحركات فنحو
الفلك فإنه يكون واحدا ويكون جمعا فأما كونه واحدا فنحو قوله تعالى ( في
الفلك المشحون ) ا فأراد به الواحد ولو أراد به الجمع لقال المشحونة.
وأما كونه جمعا فنحو قوله تعالى ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين ) وقال
تعالى ( والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ) فأراد به الجمع لقوله
وجرين والتي تجري غير أن الضمة فيه إذا كان واحدا غير الضمة فيه إذا كان
جمعا وان كان اللفظ واحدا لأن الضمة فيه إذا كان واحدا كالضمة في قفل وقلب
وإذا كان جمعا كانت الضمة فيه كالضمة في كتب و أزر وكذلك قولهم هجان ودلاص
يكون واحدا ويكون جمعا تقول ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص ودروع دلاص
فإذا كان واحدا كانت الكسرة فيه كالكسرة في كتاب و إذا كان جمعا كانت
الكسرة فيه كالكسرة في كلام والهجان الكريم من الإبل والدلاص الدرع
البراقة ويقال دلامص ودلاص ودمالص ودلمص ودملص بمعنى واحد فاعرفه تصب إن
شاء الله تعالى.
*****باب
المبتدأ***** (1/35)
إن قال قائل ما المبتدأ قيل كل اسم عريته من العوامل اللفظية لفظا او
تقديرا فقولنا اللفظية احترازا لأن العوامل تنقسم إلى قسمين إلى عامل لفظي
و إلى عامل معنوي:
فأما ا للفظي فنحو كان وأخواتها وإن وأخواتها وظننت وأخواتها وقولنا
تقديرا احترازا من تقدير الفعل في نحو قوله تعالى ( إذا السماء انشقت )
وما أشبه ذلك وأما المعنوي فلم يأت إلا في موضعين عند سيبويه وأكثر
البصريين هذا أحدهما وهو الابتداء والثاني وقوع الفعل المضارع موقع الاسم
في نحو مررت برجل يكتب فارتفع يكتب لوقوعه موقع كاتب
و أضاف أبو الحسن الأخفش إليهما موضعا ثالثا وهو عامل الصفة فذهب إلى أن
الاسم يرتفع لكونه صفة لمرفوع وينتصب لكونه صفة لمنصوب وينجر لكونه صفة
لمجرور وكونه صفة في هذه الأحوال معنى يعرف بالقلب ليس للفظ فيه حظ
وسيبويه وأكثر البصريين يذهبون إلى أن العامل في الصفة هو العامل في
الموصوف ولهذا موضع نذكره فيه إن شاء الله تعالى فإن قيل بماذا يرتفع
الاسم المبتدأ قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب سيبويه ومن تابعه من
البصريين إلى أنه يرتفع بتعريه من العوامل اللفظية وذهب بعض البصريين إلى
أنه يرتفع بما في النفس من معنى الإخبار عنه وقد ضعفه بعض النحويين وقال
لو كان الأمر كما زعم لوجب ألا ينتصب إذا دخل عليه عامل النصب لأن دخوله
عليه لم يغير معنى الإخبار عنه ولوجب ألا يدخل عليه مع بقائه فلما جاز ذلك
دل على فساد ما ذهب إليه وأما الكوفيون فذهبوا إلى أنه يرتفع بالخبر
وزعموا أنهما يترافعان وأن كل واحد منهما يرفع الآخر وقد بينا فساده في
مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين
فإن قيل فلم جعلتم التعري عاملا وهو عبارة عن عدم العوامل قيل لأن العوامل
اللفظية ليست مؤثرة في المعمول حقيقة وإنما هي أمارات
وعلامات فالعلامة تكون بعدم
شيء كما تكون بوجود شيء ألا ترى أنه لو كان معك ثوبان و أردت أن تميز
أحدهما عن الآخر لكنت تصبغ أحدهما مثلا وتترك صبغ الآخر فيكون عدم الصبغ
في أحدهما كصبغ الآخر فتبين بهذا أن العلامة تكون بعدم شيء كما تكون بوجود
شيء وإذا ثبت هذا جاز أن يكون التعري من العوامل اللفظية عاملا فإن قيل
فلم خص المبتدأ بالرفع دون غيره قيل لثلاثة أوجه أحدها أن المبتدأ وقع في
أقوى أحواله وهو الابتداء فأعطي أقوى الحركات وهو الرفع والوجه الثاني أن
المبتدأ أول والرفع أول فأعطي الأول الأول. (1/36)
والوجه الثالث أن المبتدأ مخبر عنه كما أن الفاعل مخبر عنه والفاعل مرفوع
فكذلك ما أشبهه فإن قيل لماذا لا يكون المبتدأ في الأمر العام إلا معرفة
قيل لأن المبتدأ مخبر عنه و الإخبار عمن لا يعرف لا فائدة فيه فإن قيل فهل
يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه نحو قائم زيد قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب
البصريون إلى أنه جائر وذهب الكوفيون إلى أنه غير جائر وأنه إذا تقدم عليه
الخبر يرتفع به ارتفاع الفاعل بفعله وقالوا لو جوزنا تقديم خبر المبتدأ
عليه لأدى ذلك إلى تقديم ضمير الاسم على ظاهره وذلك لا يجوز وهذا الذي
ذهبوا إليه فاسد وذلك لأن اسم الفاعل اضعف من الفعل في العمل لأنه فرع
عليه فلا يعمل حتى يعتمد ولم يوجد ههنا فوجب ألا يعمل وقولهم أن هذا يؤدي
إلى تقديم ضمير الاسم على ظاهره فاسد أيضا لأنه وان كان مقدما لفظا إلا
أنه مؤخر تقديرا وإذا كان مقدما في اللفظ مؤخرا في التقدير كان تقديمه
جائزا قال الله تعالى ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) فالهاء في نفسه ضمير
موسى وان كان في اللفظ مقدما على موسى إلا أنه لما كان موسى مقدما في
التقدير والضمير في تقدير التأخير كان ذلك جائزا فكذلك ههنا والذي يدل على
جواز ذلك وقوع الإجماع على جواز ضرب غلامه زيد وهذا بيّن.
وكذلك اختلفوا في الظرف إذا كان مقدما على المبتدأ نحو عندك زيد فذهب
البصريون إلى أنه في موضع الخبر كما لو كان متأخرا وذهب الكوفيون إلى أن
المبتدأ يرتفع بالظرف ويخرج عن كونه مبتدأ و وافقهم على ذلك أبو الحسن
الأخفش في أحد قوليه وفي هذه المسالة كلام طويل بيناه في المسائل الخلافية
لا يليق ذكره بهذا المختصر.
*****باب
خبر المبتدأ***** (1/37)
إن قال قائل على كم ضربا ينقسم خبر المبتدأ قيل على ضربين مفرد و جملة
فإن قيل على كم ضربا ! ينقسم المفرد قيل على ضربين أحدهما أن يكون اسما
غير صفة والآخر أن يكون صفة أما الاسم غير الصفة فنحو زيد أخوك وعمرو
غلامك فزيد مبتدأ و أخوك خبره وكذلك عمرو مبتدأ وغلامك خبره وليس في شيء
من هذا النحوا ضمير يرجع إلى المبتدأ عند البصريين وذهب الكوفيون إلى أن
فيه ضميرا يرجع إلى المبتدأ وبه قال علي بن عيسى الرماني من البصريين
والأول هو الصحيح لأن هذه أسماء محضة والأسماء المحضة لا تتضمن الضمائر
وأما ما كان صفة فنحو زيد ضارب وعمرو حسن وما أشبه ذلك ولا خلاف بين
النحويين في أن هذا النحو يتحمل ضميرا يرجع إلى المبتدأ لأنه يتنزل منزلة
الفعل ويتضمن معناه.
فإن قيل على كم ضربا تنقسم الجملة قيل على ضربين جملة اسمية وجملة فعلية
فأما الجملة الاسمية فما كان الجزء الأول منها اسما وذلك نحو زيد أبوه
منطلق فزيد مبتدأ أول و أبوه مبتدأ ثان ومنطلق خبر عن المبتدأ الثاني
والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول وأما الجملة الفعلية فما كان
الجزء الأول منها فعلا وذلك نحو زيد ذهب أبوه و عمرو إن تكرمه يكرمك وما
أشبه ذلك أما الظرف وحرف الجر فاختلف النحويون فيهما فذهب سيبويه وجماعة
من النحويين إلى أنهما يعدان من الجمل لأنهما يقدر معهما الفعل فإذا قال
زيد عندك وعمرو في الدار كان التقدير زيد استقر عندك وعمرو استقر في الدار.
وذهب بعض النحويين إلى أنهما
يعدان من المفردات لأنه يقدر معهما مستقر وهو اسم الفاعل، واسم الفاعل لا
يكون مع الضمير جملة والصحيح ما ذهب إليه سيبويه ومن تابعه والدليل على
ذلك أنا وجدنا الظرف وحرف الجر يقعان في صلة الأسماء الموصولة نحو الذي
والتي ومن وما وما أشبه ذلك تقول الذي عندك زيد والذي في الدار عمرو وكذلك
سائرها ومعلوم أن الصلة لا تكون إلا جملة فإذا وجدناهم يصلون بهما الأسماء
الموصولة دلنا ذلك على أنهما يعدان من الجمل لا من المفردات وأن التقدير
استقر دون مستقر لأن استقر يصلح أن يكون صلة لأنه جملة و مستقر لا يصلح أن
يكون صلة لأنه مفرد ولا بدر في هذا النحو - أعني الجملة - من ضمير يعود
إلى المبتدأ تقول زيد أبوه منطلق فيكون العائد إلى المبتدأ الهاء في أبوه
فأما قولهم السمن منوان بدرهم ففيه ضمير محذوف يرجع إلى المبتدا والتقدير
فيه منوان منه بدرهم وإنما حذف منه تخفيفا للعلم به. (1/38)
ولو قلت زيد انطلق عمرو لم يجز فلو أضفت إلى ذلك إليه أو معه صحت المسالة
لأنه قد رجع من إليه أو معه ضمير إلى المبتدأ وعلى هذا قياس كل جملة وقعت
خبرا لمبتدأ وإنما وجب ذلك ليرتبط الكلام الثاني بالأول م ولو لم يرجع منه
ضمير إلى الأول لم يكن أولى به من غيره فتبطل فائدة الخبر فإن قيل فلم إذا
كان المبتدأ جثة جاز أن يقع في خبره ظرف المكان دون ظرف الزمان قيل إنما
جاز أن يقع في خبره ظرف المكان دون ظرف الزمان لأن في وقوع ظرف المكان
خبرا عنه فائدة وليس في وقوع ظرف الزمان خبرا عنه فائدة ألا ترى أنك تقول
في ظرف المكان زيد أمامك فيكون مفيدا لأنه يجوز ألا يكون أمامك ولو قلت في
ظرف الزمان زيد يوم الجمعة لم يكن مفيدا لأنه لا يجوز أن يخلو عن يوم
الجمعة وحكم الخبر أن يكون مفيدا.
فإن قيل فكيف جاز الإخبار عنه بظرف الزمان في قولهم الليلة الهلال قيل
إنما جاز لأن التقدير فيه الليلة حدوث الهلال أو طلوع الهلال فحذف
المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه والحدوث والطلوع حدث ويجوز أن يكون خبر المبتدأ ظرف زمان إذا كان
المبتدأ حدثا كقولك الصلح يوم الجمعة والقتال يوم السبت وما أشبه ذلك لأن
في وقوعه خبرا عنه فائدة فإن قيل ما العامل في خبر المبتدأ قيل اختلف
النحويون في ذلك فذهب الكوفيون إلى أن عامله المبتدأ على ما ذكرنا وأما
البصريون فاختلفوا فذهب قوم إلى أن الابتداء وحده هو العامل في الخبر لأنه
لما وجب أن يكون عاملا في المبتدأ وجب أن يكون عاملا في الخبر قياسا على
العوامل اللفظية التي تدخل على المبتدأ وذهب قوم إلى أن الابتداء عمل في
المبتدأ والمبتدأ عمل في الخبر وذهب سيبويه وجماعة معه إلى أن العامل في
الخبر هو الابتداء والمبتدأ جميعا لأن الابتداء لا ينفك عن المبتدا ولا
يصح للخبر معنى إلا بهما فدل على أنهما العاملان فيه والذي اختاره أن
العامل في الحقيقة هو الابتداء وحده دون المبتدأ وذلك لأن الأصل في
الأسماء أن تعمل وإذا ثبت أن ألا الابتداء له تأثير في العمل فإضافة ما لا
تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له والتحقيق أن نقول أن الابتداء عمل
في الخبر بواسطة المبتدأ لا أن المبتدأ مشارك له في العمل وفي كل واحد من
هذه المذاهب كلام لا يليق ذكره بهذا المختصر فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
(1/39)
*****باب
الفاعل***** (1/40)
إن قال قائل ما الفاعل قيل كل اسم ذكرته بعد فعل و أسندت ذلك الفعل إلى
ذلك الاسم نحو قام زيد وذهب عمرو فإن قيل فلم كان إعرابه الرفع قيل فرقا
بينه وبين المفعول فإن قيل فهلا عكسوا وكان الفرق واقعا قيل لخمسة أوجه:
الوجه الأول هو أن الفعل لا يكون له إلا فاعل واحد ويكون له مفعولات كثيرة
فمنه ما يتعدى إلى مفعول واحد ومنه ما يتعدى إلى مفعولين ومنه ما يتعدى
إلى ثلاثة مفعولين مع أنه يتعدى إلى خمسة أشياء وهي المصدر وظرف الزمان
وظرف المكان والمفعول له و الحال وليس له إلا فاعل واحد وكذلك كل فعل لازم
يتعدى إلى هذه الخمسة وليس له أيضا إلا فاعل واحد
فإذا ثبت هذا وأن الفاعل أقل من المفعول والرفع أثقل والفتح أخف أعطوا
الأقل الأثقل والأكثر الأخف ليكون ثقل الرفع موازنا لقلة الفاعل وخفة
الفتح موازنة لكثرة المفعول.
والوجه الثاني أن الفاعل يشبه المبتدأ والمبتدأ مرفوع فكذلك ما أشبهه ووجه
الشبه بينهما أن الفاعل يكون هو والفعل جملة كما يكون المبتدأ مع الخبر
جملة فلما ثبت للمبتدأ الرفع حمل الفاعل عليه والوجه الثالث أن الفاعل
أقوى من المفعول فأعطي الفاعل الذي هو الأقوى الأقوى وهو الرفع و أعطي
المفعول الذي هو الأضعف الأضعف وهو النصب
والوجه الرابع أن الفاعل أول
و الرفع أول والمفعول آخر والنصب آخر فأعطي الأول الأول الآخر الآخر
والوجه الخامس أن هذا السؤال لا يلزم لأنه لم يكن لغرض إلا مجرد الفرق و
قد حصل و بيان أن هذا السؤال لا يلزم أنا لو عكسنا على ما أورده السائل
فنصبنا الفاعل ورفعنا المفعول لقال الآخر هلا عكستم فيؤدي ذلك إلى أن
ينقلب السؤال والسؤال متى انقلب كان مردودا وهذا الوجه ينبغي أن يكون
مقدما من جهة النظر إلى ترتيب الإيراد وإنما أخرناه لأنه بعيد من التحقيق
فإن قيل بماذا يرتفع الفاعل قيل يرتفع بإسناد الفعل إليه لا أنه احدث فعلا
على الحقيقة والذي يدل على ذلك أنه يرتفع في النفي كما يرتفع في الإيجاب
تقول ما قام زيد ولم يذهب عمرو فترفعه وإن كنت قد نفيت عنه القيام والذهاب
كما لو أوجبته آله نحو قام زيد وذهب عمرو وما أشبه ذلك (1/41)
فإن قيل فلم لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل قيل لأن الفاعل تنزل منزلة
الجزء من الفعل والدليل على ذلك من سبعة أوجه أحدها أنهم يسكنون لام الفعل
إذا اتصل به ضمير الفاعل قال الله تعالى ( و إذ وعدنا موسى أربعين ليلة )
لئلا يتوالى أربعة متحركات لوازم في كلمة واحدة إذ ليس من كلامهم توالي
أربعة متحركات لوازم في كلمة واحدة إلا أن يحذف من الكلمة شيء للتخفيف نحو
عجلط وعكلط وعلبط فلو لم ينزلوا ضمير الفاعل منزلة حرف من سنخ الفعل وإلا
لما أسكنوا لامه ألا ترى أن ضمير المفعول لا يسكن له لام الفعل إذا اتصل
به لأنه في نية الانفصال قال الله تعالى ( و إذ يقول المنافقون والذين في
قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا) فلم يسكن لام الفعل إذ كان
في نية الانفصال بخلاف قوله تعالى ( و إذ وعدنا موسى ) لأنه في نية
الاتصال.
والوجه الثاني أنهم جعلوا
النون في الخمسة الأمثلة علامة للرفع وحذفها علامة للجزم والنصب فلولا
أنهم جعلوا هذه الضمائر التي هي الألف والواو والياء في يفعلان وتفعلان
ويفعلون وتفعلون وتفعلين يا امرأة بمنزلة حرف من سنخ الكلمة وإلا لما
جعلوا الإعراب بعده والوجه الثالث أنهم قالوا قامت هند فالحقوا التاء
بالفعل والفعل لا يؤنث وإنما التأنيث للاسم فلو لم يجعلوا الفاعل بمنزلة
جزء من الفعل وإلا لما جاز إلحاق علامة التأنيث به والوجه الرابع أنهم
قالوا في النسب إلى كنت كنتي قال الشاعر (1/42)
( فأصبحت كنتيا و أصبحت عاجنا ... وشر خصال المرء كنت وعاجن ) - من الطويل
- فأثبتوا التاء ولو لم تتنزل منزلة حرف من سنخ الكلمة وإلا لما جاز
إثباتها.
والوجه الخامس أنهم قالوا حبذا وهي مركبة من فعل وفاعل فجعلوهما بمنزلة
اسم واحد وحكم على موضعه بالرفع على الابتداء.
والوجه السادس أنهم قالوا زيد ظننت قائم فألغوها و الإلغاء إنما يكون
للمفردات لا للجمل فلو لم يتنزل الفعل مع الفاعل منزلة كلمة واحدة وإلا
لما جاز الإلغاء والوجه السابع أنهم قالوا للواحد قفا على التثنية لأن
المعنى قف قف قال الله تعالى ( ألقيا في جهنم ) فثني وان كان الخطاب لملك
واحد لأن المراد به ألق ألق والتثنية ليست للأفعال وإنما هي للأسماء فلو
لم يتنزل الاسم منزلة بعض الفعل وإلا لما جاز تثنيته باعتباره
فإذا ثبت بهذه الأوجه أن الفاعل يتنزل منزلة الجزء من الفعل لم يجز تقديمه
عليه فإن قيل لم زعمتم أن قول القائل زيد قام مرفوع بالابتداء دون الفعل
ولا فصل بين قولنا زيد ضرب وضرب زيد قيل لوجهين أحدهما أنه من شرط الفاعل
ألا يقوم غيره مقامه مع وجوده نحو قولك قام زيد فلو كان تقديم زيد على
الفعل بمنزلة تأخيره لاستحال قولك زيد قام أخوه وعمرو انطلق غلامه ولما
جاز ذلك دل على أنه لم يرتفع بالفعل بل بالابتداء.
والوجه الثاني أنه لو كان
الأمر على ما زعمتم لوجب أن لا يختلف حال الفعل فكان ينبغي أن يقال
الزيدان قام والزيدون قام كما تقول قام الزيدان وقام الزيدون فلما لم يقل
إلا الزيدان قاما والزيدون قاموا دل على أنه يرتفع بالابتداء دون الفعل
فإن قيل فلم استتر ضمير الواحد نحو زيد قام وظهر ضمير الاثنين نحو الزيدان
قاما وضمير الجماعة نحو الزيدون قاموا قيل لأن الفعل لا يخلو من فاعل واحد
وقد يخلو من اثنين وجماعة فإذا قدمت اسما مفردا على الفعل نحو زيد قام لم
تحتج إلى إظهار ضميره لإحاطة العلم بأنه لا يخلو من فاعل واحد و إذا قدمت
اسما مثنى على الفعل نحو الزيدان قاما أو مجموعا نحو الزيدون قاموا وجب
إظهار ضمير التثنية والجمع لأنه قد يخلو من ذلك فلو لم يظهر ضميرهما لوقع
الالتباس ولم يعلم أن الفعل لاثنين أو جماعة فافهمه تصب إن شاء الله تعالى.
(1/43)
*****باب
المفعول***** (1/44)
إن قال قائل ما المفعول قيل كل اسم تعدى إليه فعل فإن قيل فما العامل في
المفعول قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب أكثر النحويين إلى أن العامل في
المفعول هو الفعل فقط وذهب بعض النحويين إلى أن العامل فيه الفعل والفاعل
معا والقول الصحيح هو الأول وهذا القول ليس بصحيح وذلك لأن الفاعل اسم كما
أن المفعول كذلك فإذا استويا في الاسمية والأصل في الاسم ألا يعمل فليس
عمل أحدهما في صاحبه أولى من الآخر وإذا ثبت هذا وأجمعنا على أن الفعل له
تأثير في العمل فإضافة ما لا تأثير له في العمل إلى ما له تأثير لا تأثير
له فدل على أن العامل هو الفعل فقط وهو على ضربين فعل متعد بغيره وفعل
متعد بنفسه فأما ما يتعدى بغيره فهو الفعل اللازم و يتعدى بثلاثة - أشياء
وهي الهمزة والتضعيف وحرف
الجر، فالهمزة نحو خرج زيد و أخرجته والتضعيف نحو خرج المتاع وخرجته و حرف
الجر نحو خرج زيد وخرجت به وكذلك فرح زيد وأفرحته وفرحته وفرحت به وما
أشبه ذلكوأما المتعدي بنفسه فعلى ثلاثة اضرب ضرب يتعدى إلى مفعول واحد
كقولك ضرب زيد عمرا و أكرم عمرو بشرا و ضرب يتعدى إلى مفعولين كقولك أعطيت
زيدا درهما وظننت زيدا قائما.
وضرب يتعدى إلى ثلاثة مفعولين كقولك أعلم الله زيدا عمرا خير الناس ونبأ
الله عمرا بشرا كريما و هذا الضرب منقول بالهمزة والتضعيف مما يتعدى إلى
مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما , لأن كل واحد من هذه الأشياء
الثلاثة المعدية التي هي الهمزة والتضعيف وحرف الجر كما أنها تنقل الفعل
اللازم من اللزوم إلى التعدي فكذلك إذا دخلت على الفعل المتعدي فإنها
تزيده مفعولا , فإن كان يتعدى إلى مفعول واحد صار يتعدى إلى مفعولين كقولك
في ضرب زيد عمرا أضربت زيدا عمرا وفي حفر زيد بئرا أحفرت زيدا بئرا وما
أشبه ذلك وان كان متعديا إلى مفعولين صار متعديا إلى ثلاثة مفعولين ونحوه
ما قدمناه لا فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
ما لم يسم فاعله***** (1/45)
إن قال قائل لم لم يسم الفاعل قيل لأن الغاية قد تكون بذكر المفعول كما
تكون بذكر الفاعل وقد يكون للجهل بالفاعل وقد يكون للإيجاز والاختصار إلى
غير ذلك فإن قيل ولم كان ما لم يسم فاعله مرفوعا قيل لأنهم لما حذفوا
الفاعل أقاموا المفعول مقامه فارتفع بإسناد الفعل إليه كما كان يرتفع
الفاعل فإن قيل فلم إذا حذف الفاعل وجب أن يقام اسم آخر مقامه قيل لأن
الفعل لا بد له من فاعل لئلا يبقى الفعل حديثا عن غير محدث عنه فلما حذف
الفاعل ههنا وجب أن يقام اسم آخر مقامه ليكون الفعل حديثا عنه وهو ا لمفعول
فإن قيل كيف يقام المفعول مقام الفاعل وهو ضده في المعنى قيل هذا غير غريب
في الاستعمال فإنه إذا جاز أن يقال مات زيد ويسمى زيد فاعلا ولم يحدث
بنفسه الموت وهو مفعول في المعنى جاز أن يقام المفعول ههنا مقام الفاعل
وإن كان مفعولا في المعنى والذي يدل على أن المفعول ههنا أقيم مقام الفاعل
أن الفعل إذا كان يتعدى إلى مفعول واحد لم يتعد إلى مفعول البتة كقولك في
ضرب زيد عمرا وأكرم بكر بشرا ضرب عمرو وأكرم بشر
وإن كان يتعدى إلى مفعولين صار يتعدى إلى مفعول واحد كقولك في أعطيت زيدا
درهما وظننت عمرا قائما أعطي زيد درهما وظن عمرو قائما ولو قلت ظن قائما
عمرا كان جائزا لزوال اللبس ولو قلت في ظننت زيدا أباك ظن أبوك زيدا لم
يجز وذلك لأن قولك ظننت زيدا أباك يؤذن بأن زيدا معلوم والأبوة مظنونة فلو
أقيم الأب مقام الفاعل لانعكس المعنى فصارت الأبوة معلومة و زيد مظنونا و
ذلك لا يجوز وكذلك تقول أعطى زيد درهما و أعطى درهم زيدا فيكون جائرا لعدم
الالتباس ولو قلت في أعطيت زيدا غلاما أعطى غلام زيدا لم يجز لأن كل واحد
منهما يصح أن يكون هو الآخذ فلو أقيم غلام مقام الفاعل لم يعلم الأخذ من
المأخوذ فلهذا كان ممتنعا وكذلك ان كان الفعل يتعدى إلى ثلاثة مفعولين صار
يتعدى إلى مفعولين كقولك في اعلم الله زيدا عمرا خير الناس اعلم
زيد عمرا خير الناس لقيام
المفعول الأول مقام الفاعل وكان هو الأولي لأنه فاعل في المعنى فدل على أن
المفعول ههنا أقيم مقام الفاعل و إذا كان الأمر على هذا فبناء الفعل
للمفعول به نقيض نقله بالهمزة والتضعيف وحرف الجر ألا ترى أن الفعل ان كان
يتعدى إلى مفعول واحد صار يتعدى بها إلى مفعولين وان كان يتعدى إلى
مفعولين صار يتعدى بها إلى ثلاثة مفعولين وذلك لأن بناء الفعل للمفعول به
يجعل المفعول فاعلا والنقل بالهمزة والتضعيف وحرف الجر يجعل الفاعل مفعولا
وإذا ثبت هذا فلا بد أن يزيد بنقله بالهمزة والتضعيف وحرف الجر مفعولا
وينقص ببنائه للمفعول مفعولا فإن قيل فلم لم وجب تغيير الفعل إذا بني
للمفعول قيل لأن المفعول يصح أن يكون هو الفاعل فلو لم يغير الفعل لم يعلم
هل هو الفاعل في الحقيقة أو قائم مقامه فإن قيل فلم ضموا الأولى وكسروا
الثاني نحو ضرب زيد وما أشبه ذلك قيل إنما ضموا الأول ليكون دلالة
(1/46)
على المحذوف الذي هو الفاعل
إذ كان من علاماته وإنما كسروا الثاني لأنهم لما حذفوا الفاعل الذي لا
يجوز حذفه أرادوا أن يصوغوه على بناء لا يشركه فيه شيء من الأبنية فبنوه
على هذه الصيغة فكسروا الثاني لأنهم لو ضموه لكان على وزن طنب و جمل ولو
فتحوه لكان على وزن نغر و صردا ولو اسكنوه لكان على وزن قلب و قفل فلم يبق
إلا الكسر فحركوه به فإن قيل فلماذا كسروا أول المعتل نحو قيل و بيع و لم
يضموه لا كالصحيح قيل كان القياس يقتض أن يجري المعتل مجرى الصحيح في ضم
أوله وكسر ثانيه إلا أنهم استثقلوا الكسرة على حرف العلة فنقلوها إلى
القاف فانقلبت الواو ياء لسكونها و انكسار ما قبلها كما قلبوها في ميعاد
وميقات وميزان وأصلها موعاد وموقات وموزان لأنها من الوعد والوقت والوزن
وأما الياء فثبتت لانكسار ما قبلها على أنه من العرب من يشير إلى الضم
تنبيها على أن الأصل في هذا النحو هو الضم ومن العرب أيضا من يحذف الكسرة
ولا ينقلها ويقر الواو لانضمام ما قبلها ويقلب الياء واوا لسكونها وانضمام
ما قبلها كقول الشاعر: (1/47)
( ليت وهل ينفع شيئا ... ليت ليت شبابا بوع فاشتريت )
أراد بيع فقلب الياء واوا لسكونها وانضمام ما قبلها كما قلبوها في نحو
موسر وموقن والأصل ميسر وميقن لأنهما من اليسر واليقين إلا أنه لما وقعت
الياء الياء ساكنة مضموما ما قبلها قلبوها واوا فكذلك ههنا
فإن قيل فهل يجوز أن يبنى الفعل اللازم للمفعول به قيل لا يجوز ذلك على
القول الصحيح وقد زعم بعضهم أنه يجوز وليس بصحيح لأنك لو بنيت الفعل
اللازم للمفعول به لكنت تحذف الفاعل فيبقى الفعل غير مسند إلى شيء وذلك
محال فإن اتصل به ظرف الزمان أو ظرف المكان أو المصدر أو الجار والمجرور
جاز أن تبنيه عليه ولا يجوز أن تبنيه على الحال لأنها لا تقع إلا نكرة فلو
أقيمت مقام الفاعل لجاز إضمارها كالفاعل فكانت تقع معرفة والحال لا تقع
إلا نكرة.
فإن قيل فلم إذا أقيم الظرف
مقام الفاعل يخرج عن الظرفية ويجعل مفعولا كزيد و عمرو وما أشبه ذلك قيل
لأنه يتضمن معنى حرف الجر فلو لم ينقل لعلقته بالفعل مع تضمن حرف الجر
والفاعل لا يتضمن حرف الجر فكذلك ما قام مقامه. (1/48)
فإن قيل فالمصدر لا يتضمن حرف الجر فهل ينقل أو لا قيل اختلف النحويون في
ذلك فذهب بعض النحويين إلى أنه لا ينقل لأنه ليس بينه وبين الفعل واسطة
وذهب آخرون إلى أنه ينقل واستدلوا على ذلك من وجهين أحدهما أن الفعل لا بد
له من الفاعل والمصدر لو لم يذكر لكان الفعل دالا عليه بصيغته فصار وجوده
وعدمه سواء والفاعل لا بد منه فكذلك ما يقوم مقامه ينبغي أن يجعل بمنزلة
المفعول الذي لا يستغني بالفعل عنه والوجه الثاني أن المصدر إنما يذكر
تأكيدا للفعل ألا ترى أن قولك سرت سيرا بمنزلة قولك سرت سرت فكما لا يجوز
أن يقوم الفعل مقام الفاعل فكذلك لا يجوز أن يقوم مقامه ما كان بمنزلته
فلهذا وجب نقل المصدر.
فإن قيل فإن اجتمع ظرف الزمان وظرف المكان والمصدر والجار والمجرور فأيها
يقام مقام الفاعل قيل أنت مخير فيها كلها أيها شئت أقمته مقام الفاعل
بعض النحويين أن الأحسن أن تقيم الاسم المجرور مقام الفاعل لأنه لو لم يكن
حرف الجر لم يقم مقام الفاعل غيره فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
نعم وبئس***** (1/49)
إن قال قائل هل نعم وبئس اسمان أو فعلان قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب
البصريون إلى أنهما فعلان ماضيان لا يتصرفان واستدلوا على ذلك من ثلاثة
أوجه الوجه الأول أن الضمير يتصل بهما على حد اتصاله بالأفعال فإنهم قالوا
نعما رجلين ونعموا رجالا كما قالوا قاما و قاموا والوجه الثاني أن تاء
التأنيث الساكنة التي لم يقلبها أحد من العرب هاء في الوقف تتصل بهما كما
تتصل بالأفعال نحو نعمت المرأة وبئست الجارية والوجه الثالث أنهما مبنيان
على الفتح كالأفعال الماضية ولو كانا اسمين لما بنيا على الفتح من غير علة
وذهب الكوفيون إلى أنهما اسمان واستدلوا على ذلك من خمسه أوجه الوجه الأول
أنهم قالوا الدليل على أنهما اسمان دخول حرف الجر عليهما وحرف الجر يختص
بالأسماء قال الشاعر - من الطويل -
( الست بنعم الجار يؤلف بيتة ... أخا قلة أو معدم المال مصرما )
وحكي عن بعض العرب أنه بشر بمولودة فقيل ج نعم المولودة مولودتك فقال
والله ما هي بنعم المولودة نصرتها بكاء وبرها سرقة وحكي عن بعض العرب أنه
قال نعم السير على بئس العير فادخلوا عليهما حرف الجر وحرف الجر يختص
بالأسماء فدل على أنهما اسمان والوجه الثاني أن العرب تقول يا نعم المولى
ويا نعم النصير فنداؤهم نعم يدل على أنها اسم لأن النداء من خصائص الأسماء
والوجه الثالث أنهم قالوا الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه لا يحسن
اقتران الزمان بهما كسائر الأفعال ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول نعم الرجل
أمس ولا بئس الرجل غدا فلما لم يحسن اقتران الزمان بهما دل على أنهما ليسا
بفعلين
والوجه الرابع أنهما لا يتصرفان ولو كانا فعلين لكانا متصرفين لأن التصرف
من خصائص الأفعال فلما لم يتصرفا دل على أنهما ليسا بفعلين والوجه الخامس
أنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا نعيم الرجل زيد وليس في أمثلة الأفعال شيء
على وزن فعيل فدل على صحة ما ذهبنا إليه والصحيح ما ذهب إليه البصريون
وأما ما استدل به الكوفيون ففاسد أما قولهم أنهما اسمان لدخول حرف الجر
عليهما فلنا هذا فاسد لأن حرف الجر إنما دخل عليهما على تقدير الحكاية فلا
يدل على أنهما اسمان لأن حرف الجر قد دخل على تقدير الحكاية على ما هو فعل
في الحقيقة كقوله - من الرجز - ( والله ما ليلي بنام صاحبه ... )
ولا خلاف أن نام فعل ماض ولا
يجوز أن يقال أنه اسم لدخول حرف الجر عليه فكذلك ههنا ولولا تقدير الحكاية
لم يحسن دخول حرف الجر على نعم وبئس ونام والتقدير في قوله ألست بنعم
الجار يؤلف بيته ألست بجار مقول فيه نعم الجار. (1/50)
وكذلك التقدير في قول بعض العرب والله ما هي بنعم المولودة والله ما هي
بمولودة مقول فيها نعم المولودة
وكذلك التقدير في قول الآخر نعم السير على بئس العير نعم السير على عير
مقول فيه بئس العير وكذلك التقدير في قول الشاعر
( والله ما ليلي بنام صاحبه ... ) والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه
إلا أنهم حذفوا الموصوف و أقاموا الصفة مقامه كقوله سبحانه وتعالى ( أن
اعمل سابغات ) أي دروعا سابغات فصار التقدير فيها ألست بمقول فيه نعم
الجار وما هي بمقول فيها نعم المولودة ونعم السير على مقول فيه بئس العير
وما ليلى بمقول فيه نام صاحبه ثم حذفوا الصفة التي هي مقول و أوقعوا
المحكي بها موقعها وحذف القول في كتاب الله تعالى وكلام العرب و أشعارهم
أكثر من أن يحصى فدخل حرف الجر على هذه الأفعال لفظا ولكن ان كان حرف الجر
داخلا على هذه الأفعال في اللفظ إلا أنه داخل على غيرها في التقدير فلا
يكون فيه دليل على الاسمية
وأما قولهم أن العرب تقول يا نعم المولى وياا نعم النصير والنداء من خصائص
الأسماء فنقول المقصود بالنداء محذوف للعلم به والتقدير فيه يا الله نعم
المولى ونعم النصير أنت.
وأما قولهم أنه لا يحسن اقتران الزمان بهما ولا يجوز تصرفهما فنقول إنما
امتنعا من اقتران الزمان الماضي والمستقبل بهما وسلبا التصرف لأن نعم
موضوعة لغاية المدح وبئس موضوعة لغاية الذم فجعل دلالتهما على الزمان
مقصورة على الآن لأنك إنما تمدح أو تذم بما هو موجود في الممدوح أو
المذموم لا بما كان فزال ولا بما سيكون في المستقبل
أما قولهم أنه قد جاء عن
العرب أنهم قالوا نعيم الرجل زيد فنقول هذه رواية شاذة تفرد بها قطرب وحده
و لئن صحت فليس فيها حجة لأن هذه الياء إنما نشأت عن إشباع الكسرة لأن
الأصل في نعم نعم بفتح النون وكسر العين فأشبعت الكسرة فنشأت الياء وهذا
كثير في كلامهم فإنه كل ما كان على وزن فعل من الأسماء والأفعال وثانيه
حرف من حروف الحلق ففيه أربعة اوجه أحدها استعماله على اصله كقولك فخد وقد
ضحك والثاني إسكان عينه تخفيفا كقولك فخد وقد ضحك والثالث اتباع فائه عينه
في الكسر كقولك فخذ وقد ضحك و الرابع كسر فائه و إسكان عينه لنقل كسرتها
إلى الفاء نحو قولك فخذ وقد ضحك فكذلك نعم فيها أربع لغات نعم بفتح النون
وكسر العين وهو الأصل و نعم بفتح النون وسكون العين العين بكسر النون
والعين ونعم بكسر النون وسكون العين وأما نعيم يالياء فإنما نشأت فيه
الياء عن إشباع الكسرة كما قال الشاعر - من الطويل - (1/51)
( كأني بفتخاء الجناحين لقوة ... على عجل مني أطأطىء شيمالي )
وكما قال الآخر - من الرجز
لا عهد لي بنيضال ... أصبحت كالشن البال )
و كما قال الآخر - من الوافر -
( ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد ) وهذا أكثر من أن
يحصى وقد ذكرناه مستقصى في المسائل الخلافية فلا نعيده ههنا فإن قيل فلم
وجب أن يكون فاعل نعم وبئس اسم جنس قيل لوجهين أحدهما أن نعم لما وضعت
للمدح العام وبئس للذم العام خص فاعلهما باللفظ العام و الوجه الآخر إنما
وجب أن يكون اسم جنس ليدل على أن الممدوح أو المذموم مستحق للمدح أو الذم
في ذلك الجنس.
فإن قيل فلم جاز الإضمار في
نعم وبئس قبل الذكر خاصة قيل إنما جاز الإضمار فيهما قبل الذكر لأن المضمر
قبل الذكر يشبه النكرة لأنه لا يعلم إلى أي شيء يعود حتى يفسر ونعم وبئس
لا يكون فاعلهما معرفة محضة فلما ضارع المضمر فاعلهما جاز الإضمار فيهما
فإن قيل فلم فعلوا ذلك قيل إنما فعلوا ذلك طلبا للتخفيف لأنهم أبدا يتوخون
الإيجاز والاختصار في كلامهم فإن قيل فكيف يحصل التخفيف و الإضمار على
شريطة التفسير قيل لأن التفسير إنما يكون بنكرة منصوبة نحو نعم رجلا زيد
والنكرة أخف من ا لمعرفة. (1/52)
فإن قيل فعلى ماذا انتصبت النكرة قيل انتصبت النكرة على التمييز فإن قيل
فلم رفع زيد في قولهم نعم الرجل زيد قيل في ذلك وجهان أحدهما أن يكون
مرفوعا على الابتداء و نعم الرجل هو الخبر وهو مقدم على المبتدأ والتقدير
فيه زيد نعم الرجل إلا أنه قدم عليه كقولهم مررت به المسكين والتقدير فيه
المسكين مررت به.
فإن قيل فأين العائد ههنا من الخبر إلى المبتدأ قيل لأن الرجل لما كان
شائعا في الجنس كان زيد داخلا تحته فصار بمنزلة العائد الذي يعود إليه منه
وصار هذا كقول هذا الشاعر - من لطويل -
( فأما القتال لا قتال لديكم ... ولكن سيرا في عراض المواكب ) فإن القتال
مبتدأ و قوله لا قتال لديكم خبره وليس فيه عائد لأن قوله لا قتال لديكم
نفي عام لأن لا تنفي الجنس فاشتمل على جميع القتال فصار ذلك بمنزلة العائد
إليه وكذلك قول الآخر - من الطويل -
( فأما الصدور لا صدور لجعفر ... ولكن أعجازا شديدا ضريرها والوجه الثاني
أن يكون زيد مرفوعا لأنه خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قيل نعم الرجل قيل من
هذا الممدوح قيل زيد أي هو زيد وحذف المبتدأ كثير في كلامهم فاعرفه تصب إن
شاء الله تعالى.
*****باب
حبذا***** (1/53)
إن قال قائل ما الأصل في حبذا قيل الأصل فيها حبب ذا إلا أنه لما اجتمع
حرفان متحركان من جنس واحد استثقلوا اجتماعهما متحركين فحذفوا حركة الحرف
الأول و أدغموه في الثاني فصار حب وركبوه مع ذا فصارا بمنزلة كلمة واحدة
ومعناها المدح وتقريب الممدوح من القلب
فإن قيل فلم قلتم أن الأصل حبب على فعل دون فعل وفعل قيل لوجهين أحدهما أن
اسم الفاعل منه حبيت على فعيل و فعيل أكثر ما يجيء فعله على فعل نحو شرف
فهو شريف وظرف فهو ظريف ولطف فهو لطيف وما أشبه ذلك والوجه الثاني أنه قد
حكى عن بعض العرب أنه نقل الضمة من الباء إلى الحاء كما قال الشاعر - من
الطويل -
( وحب بها مقتولة حين تقتل ... )
فدل على أن اصله فعل فإن قيل فلماذا جعلوهما بمنزلة كلمة واحدة قيل إنما
جعلوهما بمنزلة كلمة واحدة طلبا للتخفيف على ما جرت به عادتهم في كلامهم
فإن قيل فلم ركبوه مع المفرد المذكر دون المؤنث والمثنى والمجموع قيل لأن
المفرد المذكر هو الأصل و التأنيث والتثنية والجمع كلها فرع عليه وهي اثقل
منه فلما أرادوا التركيب كان تركيبه مع الأصل الذي هو الأخف أولى من
تركيبه مع الفرع الذي هو الأثقل فإن قيل فلم كانت حبذا في التثنية والجمع
والتأنيث على لفظ واحد قيل إنما كانت في التثنية والجمع والتأنيث على لفظ
واحد نحو حبذا الزيدان وحبذا الزيدون وحبذا هند لأنها جرت في كلامهم مجرى
المثل والأمثال لا تتغير بل تلزم سننا واحدا وطريقة واحدة فإن قيل فما
المغلب على حبذا الاسمية أو الفعلية قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب أكثر
النحويين
إلى أن المغلب عليها الاسمية،
وذلك لأن الاسم أقوى من الفعل فلما ركب أحدهما مع الآخر كان التغليب
للأقوى الذي هو الاسم دون الأضعف الذي هو الفعل وذهب بعض النحويين إلى أن
المغلب عليها الفعلية وذلك لأن الجزء الأول منهما فعل فغلب عليها الفعلية
لأن القوة للجزء الأول وذهب آخرون إلى أنها لا يغلب عليهااسمية ولا فعلية
بل هي جملة مركبة من فعل ماض واسم هو فاعل فلا يغلب أحدهما على الآخر فإن
قيل فلماذا ترفع المعرفة بعده نحو حبذا زيد رجلا قيل لخمسة اوجه الوجه
الأول أن تجعل حبذا مبتدأ و زيد خبره والوجه الثاني أن تجعل ذا مرفوعا ب
احب ارتفاع الفاعل بفعله وتجعل زيدا بدلا منه والوجه الثالث أن تجعل زيدا
خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قيل حبذا قيل من هو قيل زيد أي هو زيد. (1/54)
والوجه الرابع أن تجعل زيدا مبتدا وحبذا خبره والوجه الخامس أن تكون ذا
زائدة فيرفع زيد حب لأنه فاعل وهو اضعف الأوجه فإن قيل فعلى ماذا تنتصب
النكرة بعده قيل تنتصب النكرة بعده على التمييز ألا ترى أنك إذا قلت حبذا
زيد رجلا وحبذا عمرو راكبا يحسن فيه تقدير من كأنك قلت من رجل و من راكب
كما قال الشاعر - من البسيط -
( يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا ) وذهب بعض
النحويين إلى أنه ان كان الاسم غير مشتق نحو حبذا زيد رجلا كان منصوبا على
التمييز وان كان مشتقا نحو حبذا عمرو راكبا كان منصوبا على الحال فاعرفه
تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
التعجب***** (1/55)
إن قال قائل لم زيدت ما في التعجب نحو ما أحسن زيدا ! دون غيرها قيل لأن
ما في غاية الإبهام والشيء إذا كان مبهما كان أعظم في النفوس لاحتماله
أمورا كثيرة فلهذا كانت زيادتها في التعجب أولى من غيرها فإن قيل فما
معناها قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب سيبويه وأكثر البصريين إلى أنها
بمعنى شيء وهو في موضع رفع بالابتداءا و احسن خبره وتقديره شيء أحسن زيدا
وذهب بعض النحويين من البصريين إلى أنها بمعنى الذي وهو في موضع رفع
بالابتداء و احسن صلته وخبره محذوف وتقديره الذي أحسن زيدا شيء وما ذهب
إليه سيبويه والأكثرون أولى لأن الكلام على قولهم مستقل بنفسه لا يفتقر
إلى تقدير شيء وعلى القول الآخر يفتقر إلى تقدير شيء وإذا كان الكلام
مستقلا بنفسه مستغنيا عن تقدير كان أولى مما يفتقر إلى تقدير فإن قيل هل
أحسن فعل أو اسم قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب البصريون إلى أنه فعل ماض
واستدلوا على ذلك من ثلاثة اوجه:
الوجه الأول أنهم قالوا الدليل على أنه فعل أنه إذا وصل بياء الضمير فإن
نون الوقاية تصحبه نحو ما أحسنني وما أشبه ذلك وهذه النون إنما تصحب ياء
الضمير في الفعل خاصة لتقيه من الكسر ألا ترى أنك تقول أكرمني و أعطاني
وما أشبه ذلك و لو قلت في نحو غلامني وصاحبني غلامي و صاحبي لم يجز فلما
دخلت هذه النون عليه دل على أنه فعل
والوجه الثاني أنهم قالوا الدليل على أنه فعل أنه ينصب المعارف والنكرات و
أفعل إذا كان اسما إنما ينصب النكرات خاصة على التمييز نحو هذا أكثر منك
علما وأكبر منك سنا وما أشبه ذلك فلما نصب ههنا المعارف دل على أنه فعل
ماض والوجه الثالث أنهم قالوا الدليل على أنه فعل ماض أنه مفتوح الآخر فلو
لم يكن فعلا لما كان لبنائه على الفتح وجه إذ لو كان اسما لكان يجب أن
يكون مرفوعا لوقوعه خبرا ل ما بالإجماع فلما وجب أن يكون مفتوحا دل على
أنه فعل ماض وذهب الكوفيون إلى أنه اسم ا واستدلوا على ذلك من ثلاثة أوجه
الوجه الأول أنهم قالوا الدليل على أنه اسم أنه لا يتصرف ولو كان فعلا
لوجب أن يكون متصرفا لأن التصرف من خصائص الأفعال فلما لم يتصرف دل على
أنه ليس بفعل فوجب أن يلحق بالأسماء.
والوجه الثاني أنهم قالوا
الدليل على أنه اسم أنه يدخله التصغير والتصغير من خصائص الأسماء قال
الشاعر - من البسيط - (1/56)
( يا ما أميلح غزلانا شدن لنا ... من هؤليائكن الضال و السمر )
و الوجه الثالث أنهم قالوا الدليل على أنه اسم أنه يصح نحو ما أقومه و ما
أبيعه كما يصح الاسم في نحو هذا أقوم منك وأبيع منك ولو أنه فعل لوجب أن
يعتل كالفعل نحو أقام و أباع في قولهم أباع الشيء إذا عرضه للبيع فلما لم
يعتل وصح كالأسماء مع ما دخله من الجمود والتصغير دل على أنه اسم والصحيح
ما ذهب إليه البصريون وأما ما استدل به الكوفيون ففاسد أما قولهم أنه لا
يتصرف فلا حجة فيه لأنا أجمعنا على أن عسى وليس فعلان و مع هذا لا يتصرفان
فكذلك ههنا وإنما لم يتصرف فعل التعجب لوجهين أحدهما أنهم لما لم يصوغوا
للتعجب حرفا يدل عليه جعلوا له صيغة لا تختلف لتكون دلالة على المعنى الذي
أرادوه وأنه مضمن معنى ليس في اصله
والوجه الثاني إنما لم يتصرف لأن الفعل المضارع يصلح للحال والاستقبال و
التعجب إنما يكون مما هو موجود في الحال أو كان فيما مضى
و لا يكون التعجب مما لم يقع فلما كان المضارع يصلح للحال والاستقبال
كرهوا أن يصرفوه إلى صيغة تحتمل الاستقبال الذي لا يقع التعجب منه وأما
قولهم أنه يدخله التصغير وهو من خصائص الأسماء قلنا الجواب عنه من ثلاثة
أوجه:
الوجه الأول أن التصغير ههنا
لفظي والمراد به تصغير المصدر لا تصغير الفعل لأن هذا الفعل منع من التصرف
والفعل متى منع من التصرف لا يؤكد بذكر المصدر فلما أرادوا تصغير المصدر
صغروه بتصغير فعله لأنه يقوم مقامه ويدل عليه ا فالتصغير في الحقيقة
للمصدر لا للفعل و الوجه الثاني أن التصغير إنما حسن في فعل التعجب لأنه
لما لزم طريقة واحدة أشبه الأسماء فدخله بعض أحكامها والشيء إذا أشبه
الشيء من وجه لا يخرج بذلك عن اصله كما أن اسم الفاعل محمول على الفعل في
العمل و لم يخرج بذلك على كونه اسما و الفعل محمول على الاسم في الإعراب و
لم يخرج بذلك عن كونه فعلا فكذلك ههنا والوجه الثالث أنه إنما دخله
التصغير حملا على باب أفعل الذي للتفضيل والمبالغة لاشتراك اللفظين في ذلك
ألا ترى أنك لا تقول ما احسن زيدا ! إلا لمن بلغ الغاية في الحسن كما لا
تقول زيد أحسن القوم إلا لمن كان أفضلهم في الحسن فلهذه
(1/57)
المشابهة بينهما جاز التصغير
في قوله يا أميلح غزلانا كما تقول غزلانك أميلح الغزلان و ما أشبه ذلك
والذي يدل على اعتبار هذه المشابهة بينهما أنهم حملوا أفعل منك وهو أفعل
القوم على قولهم ما أفعله فجاز فيهما ما جاز فيه وامتنع فيهما ما امتنع
فيه فلم يقولوا هذا اعور منك ولا اعور القوم لأنهم لم يقولوا ما أعوره و
قالوا هو أقبح عورا منك و أقبح القوم عورا كما قالوا ما أقبح عوره و كذلك
لم يقولوا هو أحسن منك حسنا فيؤكدوا كما لم يقولوا ما أحسن زيدا حسنا فلما
كانت بينهما هذه المشابهة دخله التصغير حملا على أفعل الذي للتفضيل
والمبالغة وأما قولهم أنه يصح كما يصح الاسم قلنا التصحيح حصل من حيث حصل
التصغير و ذلك لحمله على باب أفعل الذي للمفاضلة و لأنه أشبه الأسماء لأنه
الزم طريقة واحدة فلما أشبه الاسم من هذين الوجهين وجب أن يصح كما يصح
الاسم وشبهه للاسم من هذين الوجهين لا يخرجه عن كونه فعلا كما أن ما لا
ينصرف أشبه الفعل من وجهين و لم يخرج بذلك عن كونه اسما فكذلك ههنا هذا
الفعل و إن أشبه الاسم من وجهين لا يخرج عن كونه فعلا على أن تصحيحه غير
مستنكر فان كثيرا من الأفعال المتصرفة جاءت مصححة كقولهم أغيلت المرأة
واستنوق الجمل واستتيست الشاة ( واستحوذ عليهم ا قال الله تعالى استحوذ
عليهم الشيطان ) وهذا كثير في كلامهم. (1/58)
و الذي يدل على أن تصحيحه لا يدل على كونه اسما أن أفعل به جاء في التعجب
مصححا مع كونه فعلا بالإجماع نحو أقوم به و أبيع به فكما أن التصحيح في
افعل به لا يخرجه على كونه فعلا فكذلك التصحيح في ما افعله لا يخرجه عن
كونه فعلا وقد ذكرنا هذه المسالة مستوفاة في المسائل الخلافية فإن قيل فلم
كان فعل التعجب منقولا من الثلاثي دون غيره قيل لوجهين أحدهما أن الأفعال
على ضربين ثلاثي ورباعي فجاز نقل الثلاثي إلى الرباعي لأنك تنقله من اصل
إلى اصل ولم يجز نقل الرباعي إلى الخماسي لأنك تنقله من أصل إلى غير أصل
لأن الخماسي ليس بأصل
و الوجه الثاني أن الثلاثي
أخف من غيره فلما كان أخف من غيره احتمل زيادة الهمزة وأما ما زاد على
الثلاثي فهو ثقيل فلم يحتمل الزيادة فإن قيل فلم كانت الهمزة أولى
بالزيادة قيل لأن الأصل في الزيادة حروف المد و اللين وهي الواو والياء
والألف فأقاموا الهمزة مقام الألف لأنها قريبة من الألف (1/59)
و إنما أقاموها مقام الألف لأن الألف لا يتصور الابتداء بها لأنها لا تكون
إلا ساكنة و الابتداء بالساكن محال و كان تقدير زيادة الألف ههنا أولي
لأنها أخف حروف العلة و قد كثرت زيادتها في هذا النحو نحو أبيض و أسود و
ما أشبه ذلك فإن قيل فلماذا ينتصب الاسم في قولهم ما احسن زيدا ا قيل
ينتصب لأنه مفعول أحسن لأن أحسن لما ثقل بالهمز صار متعديا بعد أن كان
لازما فتعدى إلى زيد فصار زيد منصوبا بوقوع الفعل عليه فإن قيل فلم لا
يشتق فعل التعجب من الألوان و الخلق قيل لوجهين أحدهما أن الأصل في
أفعالها أن تستعمل على أكثر من ثلاثة أحرف و ما زاد على ثلاثة أحرف لا
يبنى منه فعل التعجب و الوجه الثاني أن هذه الأشياء لما كانت ثابتة في
الشخص لا تكاد تتغير جرت مجرى أعضائه التي لا معنى للأفعال فيها كاليد و
الرجل وما أشبه ذلك فكما لا يجوز أن يقال ما أيداه و لا ما أرجله من اليد
و الرجل فكذلك لا يجوز أن يقال ما أحمره و لا ما أسوده فإن كان المراد
بقوله ما أيداه من اليد بمعنى النعمة و ما أرجله من الرجلة جاز وكذلك إن
كان المراد بقوله ما أحمره من صفة البلادة لا من الحمرة و ما أسوده من
السودد لا من السواد كان جائزا وإنما جاز في هذه الأشياء لأنها ليست
بألوان و لا خلق فإن قيل فلم استعملوا لفظ الأمر في التعجب نحو أحسن بزيد
وما أشبهه قيل إنما فعلوا ذلك لضرب من المبالغة في المدح.
فإن قيل وما الدليل على أنه
ليس بفعل أمر قيل الدليل على ذلك أنه يكون على صيغة واحدة في جميع الأحوال
تقول يا رجل أحسن بزيد ويا رجلان أحسن بزيد و يا رجال أحسن بزيد و يا هند
أحسن بزيد و يا هندان أحسن بزيد و يا هندات أحسن بزيد فيكون مع الواحد
والاثنين والجماعة والمؤنث على صيغة واحدة لأنه لا ضمير فيه و لو كان أمرا
لكان ينبغي أن يختلف فتقول في التثنية أحسنا و في جمع المذكر أحسنوا و في
إفراد المؤنث أحسني و في جمع المؤنث أحسن فتأتي بضمير الاثنين و الجماعة و
المؤنث فلما كان على صيغة واحدة دل على أن لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر. (1/60)
فإن قيل فما موضع الجار والمجرور في قولهم أحسن بزيد قيل موضعه الرفع لأنه
فاعل احسن لأنه لما كان أحسن فعلا و الفعل لا بد له من فاعل جعل الجار و
المجرور في موضع رفع لأنه فاعل كقوله تعالى ( و كفى بالله وليا و كفى
بالله نصيرا ) أي وكفى الله وليا و كفى الله نصيرا والباء زائدة فكذلك
ههنا الباء زائدة لأن الأصل في أحسن بزيد أحسن زيد أي صار ذا حسن ثم نقل
إلى لفظ الأمر وزيدت الباء عليه
فإن قيل فلم زيدت الباء عليه قيل لوجهين أحدهما أنه لما كان لفظ فعل
التعجب لفظ الأمر زادوا الباء فرقا بين لفظ الأمر الذي للتعجب و بين لفظ
الأمر الذي لا يراد به التعجب.
و الوجه الثاني أنه لما كان معنى الكلام يا حسن اثبت بزيد أدخلوا الباء
لأن اثبت يتعدى بحرف الجر فلذلك أدخلوا الباء.
و قد ذهب بعض النحويين إلى أن
الجار و المجرور في موضع نصب لأنه يقدر في الفعل ضميراا هو الفاعل كما
يقدر في ما احسن زيدا و إذا قدر ههنا في الفعل ضمير هو الفاعل وقع الجار
والمجرور في موضع المفعول فكانا في موضع نصب و الذي عليه أكثر النحويين هو
الأول و كان الأول هو الأولي لأن الكلام إذا كان مستقلا بنفسه في غير
إضمار كان أولي مما يفتقر إلى إضمار ثم حمل أحسن بزيد على ما أحسن زيدا في
تقدير الإضمار لا يستقيم لأن أحسن إنما أضمر فيه لتقدم ما عليه لأن ما
مبتدأ و أحسن خبره و لا بد فيه من ضمير يرجع إلى المبتدأ بخلاف أحسن بزيد
فإنه لم يتقدمه ما يوجب تقدير الضمير فبان الفرق بينهما فاعرفه تصب إن شاء
الله تعالى.
(1/61)
*****باب
عسى***** (1/62)
إن قال قائل ما عسى من الكلم قيل فعل ماض من أفعال المقاربة لا يتصرف
و قد حكى عن ابن السراج أنه حرف وهو قول شاذ لا يعرج عليه والصحيح أنه فعل
والدليل على ذلك أنه يتصل به تاء الضمير و ألفه و واوه نحو عسيت وعسيا
وعسوا قال الله تعالى ( فهل عسيتم إن توليتم ) فلما دخلت عليه هذه الضمائر
كما تدخل على الفعل نحو قمت و قاما و قاموا و قمتم دل على أنه فعل.
وكذلك أيضا تلحقه تاء التأنيث الساكنة التي تختص بالفعل تقول عست المرأة
كما تقول قامت وقعدت فدل على أنه فعل فإن قيل فلم لا يتصرف قيل لأنه أشبه
الحرف لأنه لما كان فيه معنى الطمع أشبه لعل و لعل حرف لا يتصرف فكذلك ما
أشبهه فإن قيل فماذا تعمل عسى قيل ترفع الاسم وتنصب الخبر ك كان إلا أن
خبرها لا يكون إلا مع الفعل المستقبل نحو عسى زيد أن يقوم فإن قيل فلم
أدخلت في خبره أن قيل لأن عسى وضعت لمقاربة الاستقبال و أن إذا أدخلت على
الفعل المضارع أخلصته للاستقبال فلما كانت عسى موضوعة لمقاربة الاستقبال و
أن تخلص الفعل للاستقبال ألزموا الفعل الذي وضع لمقاربة الاستقبال أن التي
هي علم الاستقبال فإن قيل وما الدليل على أن موضع أن وصلتها النصب قيل لأن
معنى عسى زيد أن يقوم قارب زيد القيام والذي يدل على ذلك قولهم عسى الغوير
أبؤسا وكان القياس أن يقال عسى الغوير أن يبأس إلا أنهم رجعوا إلى الأصل
المتروك فقالوا عسى الغوير أبؤسا فنصبوه ب عسى لأنهم أجروها مجرى قارب
فكأنه قيل قارب الغوير أبؤسا وهو جمع بأس أو بؤس
فإن قيل فلم حذفوا أن من خبره في بعض أشعارهم قيل إنما يحذفونها في بعض
أشعارهم ا لأجل الاضطرار تشبيها لها ب كاد فإن كاد من أفعال المقاربة كما
أن عسى من أفعال المقاربة فلهذا الشبه بينهما جاز أن تحمل عليها في حذف أن
من خبرها في نحو قوله - من الوافر -
( عسى الغم الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب ) و كما أن عسى تشبه ب
كاد في حذف أن معها فكذلك كاد تشبه ب عسىفي إثباتها معها قال الشاعر - من
الرجز -
( قد كاد من طول البلى أن يمصحا ... )
فأثبت أن مع كاد و إن كان الاختيار حذفها حملا على عسى فدل على وجود
المشابهة بينهما فإن قيل ولم كان الاختيار مع كاد حذف أن وهي ك عسى في
المقاربة قيل هما و إن اشتركا في الدلالة على المقاربة إلا أن
كاد أبلغ في تقريب الشيء من
الحال و عسى اذهب في الاستقبال ألا ترى أنك لو قلت كاد زيد يذهب بعد عام
لم يجز لأن كاد توجب أن يكون الفعل شديد القرب من الحال ولو قلت عسى الله
أن يدخلني الجنة برحمته لكان جائرا و إن لم يكن شديد القرب من الحال فلما
كانت كاد أبلع في تقريب الشيء من الحال حذف معهاأن التي هي علم الاستقبال
و لما كانت عسى أذهب في الاستقبال أتي معها ب أن التي هي علم الاستقبال
فإن قيل فما موضع أن مع صلتها في نحو عسى أن يخرج زيد قيل موضعها مع صلتها
الرفع بأنه فاعل كما كان زيد مرفوعا بأنه فاعل في نحو عسى زيد أن يخرج فإن
قيل فهل يجوز أن تحذف أن إذا كانت مع صلتها في موضع رفع قيل لا يجوز ذلك
لأن من شرط الفاعل أن يكون اسما لفظا ومعنى فإذا قلت عسى يخرج زيد فقد
جعلت الفعل فاعلا و الفعل لا يكون فاعلا لأن الفاعل مخبر عنه و الإخبار
إنما يكون عن الاسم لا عن الفعل بلى إن جعل زيد في نحو عسى يخرج زيد فاعل
عسى وجعل يخرج في موضع الخبر جازت المسالة لأن المفعول لا يبلغ في اقتضاء
الاسمية مبلغ الفاعل ألا ترى أنه قد يقوم مقام المفعول ما ليس باسم نحو
ظننت زيدا قام أبوه ف قام أبوه جملة فعلية وقد قامت مقام المفعول الثاني ل
ظننت وأما الفاعل فلا يجوز أن يقع قط إلا اسما لفظا ومعني لما (1/63)
بينا فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
كان و أخواتها***** (1/64)
إن قال قائل أي شيء كان وأخواتها من الكلم قيل أفعال وذهب بعض النحويين
إلى أنها حروف وليست أفعالا لأنها لا تدل على المصدر ولو كانت أفعالا لكان
ينبغي أن تدل على المصدر فلما لم تدل على المصدر دل على أنها ليست أفعالا
و الصحيح أنها أفعال وهو مذهب الأكثيرين والدليل على ذلك من ثلاثة أوجه
الوجه الأول أنها تلحقها تاء الضمير و ألفه وواوه نحو كنت و كانا و كانوا
كما تقول قمت وقاما وقاموا وما أشبه ذك والوجه الثاني أنها تلحقها تاء
التأنيث الساكنة نحو كانت المرأة كما تقول قامت المرأة و هذه التاء تختص
بالأفعال والوجه الثالث أنها تتصرف نحو كان يكون وصار يصير وأصبح يصبح
وأمسى يمسي وكذلك سائرها ما عدا ليس وإنما لم يدخلها التصرف لأنها أشبهت
ما لأنها تنفي الحال كما أن ما تنقي الحال ولهذا تجري ما مجرى ليس في لغة
أهل الحجاز فلما أشبهت ما وهي حرف لا يتصرف وجب ألا تتصرف
وأما قولهم إنها لا تدل على المصدر ولو كانت أفعالا لدلت على المصدر قلنا
هذا إنما يكون في الأفعال الحقيقية وهذه أفعال غير حقيقية و لهذا المعنى
تسمى أفعال العبارة فما ذكرناه يدل على أنها أفعال و ما ذكروه يدل على
أنها أفعال غير حقيقية فقد عملنا بمقتضى الدليلين على أنهم قد جبروا هذا
الكسر فألزموها الخبر عوضا عن دلالتها على المصدر و إذا وجد الجبر بلزوم
الخبر عوضا عن المصدر كان في حكم الموجود الثابت
فإن قيل فعلى كم تنقسم كان و أخواتها قيل أما كان فتنقسم على خمسة أوجه:
الوجه الأول أنها تكون ناقصة فتدل على الزمان المجرد عن الحدث نحو كان زيد
قائما و يلزمها الخبر لما بينا و الوجه الثاني أنها تكون تامة فتدل على
الزمان و الحدث كغيرها من الأفعال الحقيقية ولا تفتقر إلى خبر نحو كان زيد
وهي بمعنى حدث ووقع قال الله تعالى ( و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة )
أي حدث ووقع
و قال تعالى ( إلا أن تكون
تجارة ) و قال تعالى ( و إن تك حسنة يضاعفها ) في قراءة من قرأ بالرفع و
قال تعالى ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) أي وجد و حدث و صبيا منصوب
على الحال و لا يجوز أن تكون كان ههنا الناقصة لأنه لا اختصاص لعيسى في
ذلك لأن كلا قد كان في المهد صبيا ولا عجب في تكليم من كان فيما مضى في
حال الصبي وإنما العجب في تكليم من هو موجود في المهد في حال الصبي فدل
على أنها ههنا بمعنى وجد وحدث وعلى هذا قولهم أنا مذ كنت صديقك أي وجدت
قال الشاعر - من الطويل - (1/65)
( فدى لبنى ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ) أي حدث
يوم و قال الآخر - من الوافر -
( إذا كان الشتاء فادفئوني ... فإن الشيخ يهدمه الشتاء ) أي حدث الشتاء.
و الوجه الثالث أن يجعل فيها ضمير الشان والحديث فتكون الجملة خبرها نحو
كان زيد قائم أي كان الشأن و الحديث زيد قائم قال الشاعرا - من الطويل -
( إذا مت كان الناس نصفان شامت ... وآخر مثن بالذي كنت اصنع ) أي كان
الشأن و الحديث الناس نصفان والوجه الرابع أن تكون زائدة غير عاملة زيد
قائم قال الشاعر - من الوافر -
( سراة بني أبي بكر تسامى ... على كان المسومة العراب ) أي على المسومة
وقال آخر - من الوافر
فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام ) أي جيران كرام
والوجه الخامس أن تكون بمعنى صار قال الله تعالى ( وكان من الكافرين ) ا (
فكان من المغرقين ) أي صار وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى ( كيف نكلم من
كان في المهد صبيا )
أي صار وقال الشاعر
( بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها ) - من
الطويل -
أي صارت فراخا بيوضها
وأما صار فتستعمل ناقصة وتامة فأما الناقصة فتدل أيضا على الزمان المجرد
عن الحدث وتفتقر إلى الخبر نحو صار زيد عالما مثل كان إذا كانت
ناقصة و أما التامة فتدل على
الزمان والحدث ولا تفتقر إلى خبر نحو صار زيد إلى عمرو مثل كان إذا كانت
تامة وكذلك سائر أخواتها تستعمل ناقصة وتامة إلا ظل وليس وما زال وما فتئ
فإنها لا تستعمل إلا ناقصةا فإن قيل فلم عملت هذه الأفعال في شيئين قيل
لأنها عبارة عن الجمل دون المفردات فلما اقتضت شيئين وجب أن تعمل فيهما
فإن قيل فلم رفعت الاسم و نصبت الخبر قيل تشبيها بالأفعال الحقيقية فرفعت
الاسم تشبيها بالفاعل و نصبت الخبر تشبيها بالمفعول فإن قيل فهل يجوز
تقديم أخبارها على أسمائها قيل نعم يجوز تقديم أخبارها على أسمائها وإنما
جاز ذلك لأنها لما كانت أخبارها مشبهة بالمفعول وأسماؤها مشبهة بالفاعل
والمفعول يجوز تقديمه على الفاعل فكذلك ما كان مشبها به فإن قيل فهل يجوز
تقديم أخبارها عليها أنفسها قيل يجوز ذلك فيما لم يكن في أوله ما نحو
قائما كان زيد وإنما جاز ذلك لأنه لما كان مشبها بالمفعول و العامل فيه
متصرف جاز تقديمه عليه كالمفعول نحو عمرا ضرب زيد فإن قيل فلم لم يجز
تقديم أسمائها عليها أنفسها كما يجوز تقديم أخبارها عليها قيل إنما لم يجز
تقديم أسمائها عليها لأن أسماءها مشبهة بالفاعل و الفاعل لا يجوز تقديمه
على الفعل فكذلك ما كان مشبها به و جاز تقديم أخبارها عليها لأنها مشبهة
بالمفعول والمفعول يجوز تقديمه على الفعل كما بينا فإن قيل فلم لم يجز
تقديما خبر ما في أوله ما عليه قيل لأن ما في أوله ما ما عدا ما دام للنفي
والنفي له صدر الكلام كالاستفهام فكما أن الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما
قبله نحو عمرا اضرب زيد فكذلك النفي لا يعمل ما بعده فيما قبله نحو قائما
ما زال زيد وقد ذهب بعض النحويين ا إلى أنه يجوز تقديم خبر ما زال عليها
وذلك لأن ما للنفي و زال فيها معنى النفي والنفي إذا دخل على النفي صار
إيجابا فإذا صار إيجابا صار قولك ما زال زيد قائما بمنزلة كان زيد قائما
وكما يجوز أن تقول قائما كان زيد
(1/66)
فكذلك يجوز أن تقول قائما ما
زال زيد و أجمعوا على أنه لا يجوز تقديم خبر ما دام عليها وذلك لأن ما
فيها مع الفعل بمنزلة المصدر ومعمول المصدر لا يتقدم عليه (1/67)
فإن قيل فهل يجوز تقديم خبر ليس عليها قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب
الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبرها عليها وذهب اكثر البصريين إلى جوازه
لأنه كما جاز تقديم خبرها على اسمها جاز تقديم خبرها عليها نفسها و
الاختيار عندي ما ذهب إليه الكوفيون لأن ليس فعل لا يتصرف والفعل إنما
يتصرف عمله إذا كان متصرفا في نفسه وإذا لم يكن متصرفا في نفسه لم يتصرف
عمله وأما قولهم أنه كما جاز تقديم خبرها على اسمها جاز تقديم خبرها عليها
ففاسد لأن تقديم خبرها على اسمها لا يخرجه على كونه متأخرا عنها وتقديم
خبرها عليها يوجب كونه متقدما عليها و ليس من الضرورة أن يعمل الفعل فيما
يعده ويجب أن يعمل فيما قبله ثم نقول إنما جاز تقديم خبرها على اسمها
لأنها اضعف من كان لأنها تتصرف ويجوز تقديم خبرها عليها و أقوى من ما
لأنها حرف ولا يجوز تقديم خبرها على اسمها فجعل لها منزلة بين منزلتين فلم
يجز تقديم خبرها عليها نفسها لتنحط عن درجة كان ويجوز تقديم خبرها على
اسمها لترتفع عن درجة ما.
فإن قيل لم جاز ما كان زيد إلا قائما ولم يجز ما زال زيد إلا قائما قيل
لأن إلا إذا دخلت في الكلام أبطلت معنى النفي فإذا قلت ما كان زيد إلا
قائما كان التقدير فيه كان زيد قائماا و إذا قلت ما زال زيد إلا قائما صار
التقدير زال زيد قائما و زال لا تستعمل إلا بحرف النفي فلما كان إدخال حرف
الاستثناء يوجب إبطال معنى النفي و كان يجوز استعمالها من غير حرف النفي و
زال لا يجوز استعمالها إلا بحرف النفي جاز ما كان زيد إلا قائما و لم يجز
ما زال زيد إلا قائما فأما قول الشاعر - من الطويل -
حراجيج ما تنفك إلا مناخة ...
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا ) فالخبر قوله على الخسف وتقديره ما تنفك
على الخسف إلا أن تناخ أو نرمي بها بلدا قفرا (1/68)
و قد روى مناخة بالرفع ولا مزية في هذه الرواية فاعرفه تصب إن شاء الله
تعالى.
*****باب
ما***** (1/69)
إن قال قائل لم عملت ما في لغة أهل الحجاز فرفعت الاسم ونصبت الخبر قيل
لأن ماأشبهت ليس ووجه الشبه بينهما من وجهين أحدهما أن ما تنفي الحال كما
أن ليس تنفي الحال.
والوجه الثاني أن ما تدخل على المبتدأ والخبر كما أن ليس تدخل على المبتدأ
و الخبر ويقوي هذه المشابهة بينهما دخول الباء في خبرها كما تدخل في خبر
ليس فاذا ثبت أنها أشبهت ليس وجب أن تعمل عملها فترفع الاسم وتنصب الخبر و
هي لغة القرآن قال الله تعالى ( ما هذا بشر ) و ذهب الكوفيون إلى أن الخبر
منصوب بحذف حرف الجر وهذا فاسد لأن حذف حرف الجر لا يوجب النصب لأنه لو
كان حذف حرف الجر يوجب النصب لكان ينبغي أن يكون ذلك في كل موضع ولا خلاف
أن كثيرا من الأسماء يحذف منها حرف الجر ولا تنتصب بحذفه كقوله تعالى ( و
كفي بالله وليا و كفى بالله نصيرا ) و لو حذف حرف الجر لكان و كفى الله
وليا و كفى الله نصيرا بالرفع كقول الشاعر - من الطويل -
( عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا )
كذلك قولهم بحسبك زيد و ما جاءني من أحد ولو حذفت حرف الجر لقلت حسبك زيد
وما جاءني أحد بالرفع فدل على أن حذف حرف الجر لا يوجب النصب فإن قيل فلم
لم تعمل على لغة بني تميم قيل لأن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصا بالاسم
كحروف الجر أو بالفعل كحروف الجزم وإذا كان يدخل على الاسم والفعل لم يعمل
كحروف العطف و ما يدخل على الاسم والفعل ألا ترى أنك تقول ما زيد قائم وما
يقوم زيد فتدخل عليهما فلما كانت غير مختصة وجب أن تكون غير عاملة فإن قيل
فلم دخلت الباء في خبرها نحو ما زيد بقائم قيل لوجهين أحدهما أنها دخلت
توكيدا للنفي والثاني أن يقدر أنها جواب لمن قال أن زيدا لقائم فادخلت
الباء في خبرها لتكون بازاء اللام في خبر أن فإن قيل فلم بطل عملها في لغة
أهل الحجاز إذا فصلت بين اسمها وخبرها بالا قيل لأن ما إنما عملت لأنها
أشبهت ليس من جهة المعنى و هو النفي و إلا تبطل معنى النفي فتزول المشابهة
و إذا زالت المشابهة وجب ألا تعمل.
فإن قيل فلماذا بطل عملها أيضا إذا فصلت بينها وبين اسمها وخبرها ب أن
الخفيفةا قيل لأن ما ضعيفة في العمل لأنها إنما عملت لأنها أشبهت فعلا لا
يتصرف شبها ضعيفا من جهة المعنى فلما كان عملها ضعيفا بطل عملها مع الفصل
ولهذا المعنى يبطل عملها أيضا إذا تقدم الخبر على الاسم نحو ما قائم زيد
لضعفها في العمل فألزمت طريقة واحدة فأما قول الشاعرا - من البسيط -
( فاصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش و إذ ما مثلهم بشر )
فمن النحويين من قال هو منصوب على الحال لأن التقدير فيه و إذ ما بشر
مثلهم فلما قدم مثلهم الذي هو صفة النكرة انتصب على الحال لأن صفة النكرة
إذا تقدمت انتصبت على الحال كقول الشاعر - من الوافر
لمية موحشا طلل ... ) والتقدير فيه طلل موحش وكقول الآخر - من البسيط -
( والصالحات عليها مغلقا باب ... )
والتقدير فيه باب مغلق إلا أنه لما قدم صفة النكرة نصبها على الحال ومنهم
من قال هو منصوب على الظرف لأن قوله ما مثلهم بشر في معنى فوقهم و منهم من
حمله على الغلط فإن هذا البيت للفرزدق وكان تميميا و ليس من لغته إعمال ما
سواء تقدم الخبر أو تأخر فلما استعمل لغة غيره غلط فظن أنها تعمل مع تقدم
الخبر كما تعمل مع تأخره فلم يكن في ذلك حجة ومنهم من قال أنها لغة لبعض
العرب و هي لغة قليلة لا يعتد بها فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
إن و أخواتها***** (1/70)
إن قال قائل لم أعملت هذه الأحرف قيل لأنها أشبهت الفعل ووجه الشبه بينهما
من خمسة أوجه الوجه الأول أنها مبنية على الفتح كما أن الفعل الماضي مبني
على الفتح والوجه الثاني أنها على ثلاثة أحرف كما أن الفعل على ثلاثة أحرف
والوجه الثالث أنها تلزم الأسماء كما أن الفعل يلزم الأسماء والوجه الرابع
أنها تدخل عليها نون الوقاية كما تدخل على الفعل نحو إنني وكأنني ولكنني
وكذلك سائرها والوجه الخامس أن فيها معاني الأفعال فمعنى إن و أن حققت
ومعنى كأن شبهت ومعنى لكن استدركت ومعنى ليت تمنيت ومعنى لعل ترجيت فلما
أشبهت هذه الحروف الفعل من هذه الأوجه وجب أن تعمل عمله وإنما عملت في
شيئين لأنها عبارة عن الجمل لا عن المفردات كما بينا في كان.
فإن قيل فلم نصبت الاسم و رفعت الخبر قيل لأنها لما أشبهت الفعل وهو يرفع
و ينصب شبهت به فنصبت الاسم تشبيها بالمفعول ورفعت الخبر تشبيها بالفاعل
فإن قيل فلم وجب تقديم المنصوب على المرفوع قيل لوجهين أحدهما أن هذه
الحروف تشبه الفعل لفظا و معنى فلو قدم المرفوع على المنصوب لم يعلم هل هي
حروف أو أفعال فإن قيل الأفعال تتصرف والحروف لا تتصرف قيل عدم التصرف لا
يدل على أنها حروف لأنه قد يوجد أفعال لا تتصرف ك انعم و بئس و عسى و ليس
و فعل التعجب و حبذا فلما كان ذلك يؤدي إلى الالتباس بالأفعال وجب تقديم
المنصوب على المرفوع رفعا لهذا الالتباس
و الوجه الثاني أن هذه الحروف لما أشبهت الفعل الحقيقي لفظا ومعنى حملت
عليه في العمل فكانت فرعا عليه في العمل وتقديم المنصوب على المرفوع فرع
فألزموا الفرع الفرع
و تخرج على هذا ما فإنها ما أشبهت الفعل من جهة اللفظ و إنما أشبهته من
جهة المعنى ثم الفعل الذي أشبهته ليس فعلا حقيقيا وفي فعليته خلاف
بخلاف هذه الحروف فإنها أشبهت
الفعل الحقيقي من جهة اللفظ والمعنى من الخمسة الأوجه التي بيناها فبان
الفرق بينهما وقد ذهب الكوفيون إلى أن أن و أخواتها تنصب الاسم ولا ترفع
الخبر وإنما الخبر يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها لأنها فرع على الفعل
في العمل فلا تعمل عمله لأن الفرع أبدا أضعف من الأصل فينبغي ألا تعمل في
الخبر وهذا ليس بصحيح لأن كونه فرعا على الفعل في العمل لا يوجب ألا يعمل
عمله فإن اسم الفاعل فرع على الفعل في العمل ويعمل عمله على أنا قد عملنا
بمقتضى كونه فرعا فإنا ألزمناه طريقة واحدة و أوجبنا فيه تقديم المنصوب
على المرفوع ولم نجوز فيه الوجهين كما جاز ذلك مع الفعل لئلا يجري مجرى
الأصل فلما أوجبنا فيه تقديم المنصوب على المرفوع بأن ضعف هذه الحروف
وانحطاطها عن رتبة الفعل فوقع الفرق بين الفرع و الأصل ثم لو كان الأمر
كما زعموا و أنه باق على رفعه لكان الاسم المبتدأ أولى بذلك فلما وجب نصب
المبتدأ بها وجب رفع الخبر بها لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في
الأسماء النصب و لا يعمل الرفع فما ذهبوا إليه يؤدي إلى ترك القياس و
مخالفة الأصول لغير فائدة وذلك لا يجوز فإن قيل فلم جاز العطف علي موضع إن
و لكن دون سائر أخواتها قيل لأنهما لم يغيرا معنى الابتداء بخلاف سائر
الحروف لأنها غيرت معنى الابتداء لأن كأن أفادت معنى التشبيه و ليت أفادت
معنى التمني و لعل أفادت معنى الترجي. (1/71)
فإن قيل فهل يجوز العطف على الموضع قبل ذكر الخبرا قيل اختلف النحويون في
ذلك فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك على الإطلاق و ذلك لأنك إذا قلت
أنك وزيد قائمان وجب أن يكون زيد مرفوعا بالابتداء ووجب أن يكون عاملا في
خبر زيد وتكون أن عاملة في خبر الكاف وقد اجتمعا معا وذلك لا يجوز.
وأما الكوفيون فاختلفوا في
ذلك فذهب الكسائي إلى أنه يجوز ذلك على الإطلاق سواء تبين فيه عمل إن أو
لم يتبين نحو إن زيدا و عمرو قائمان و إنك و بكر منطلقان و ذهب الفراء إلى
أنه لا يجوز ذلك إلا فيما لا يتبين فيه عمل إن و استدلوا على ذلك بقوله
تعالى ( إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئين و النصارى ) ا فعطف
الصابئين على موضع إن قبل تمام الخبر و هو قوله ( من آمن بالله واليوم
الآخر ) و بما حكى عن بعض العرب أنه قال أنك وزيد ذاهبان وقد ذكره سيبويه
في الكتاب (1/72)
و الصحيح ما ذهب إليه البصريون وأما ما استدل يه الكوفيون فلا حجة لهم فيه
أما قوله تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) فلا حجة لهم
فيه من وجهين أحدهما أنا نقول في الآية تقديم وتأخير والتقدير فيها إن
الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر - وعمل صالحا - فلا
خوف عليهم و لا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك والوجه الثاني أن تجعل
قوله من آمن بالله واليوم الآخر خبرا للصابئين والنصارى وتضمر للذين آمنوا
والذين هادوا خبرا مثل الذي أظهرت للصابئين والنصارى ألا ترى أنك تقول زيد
وعمرو قائم فتجعل قائما خبرا لعمرو و تضمر لزيد خبرا آخر مثل الذي أظهرت
لعمرو و إن شئت جعلته خبرا لزيد و أضمرت لعمرو خبرا كما قال الشاعر - من
الوافر -
( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق ) فإن شئت جعلت قوله
بغاة خبرا للثاني وأضمرت للأول خبرا وإن شئت جعلته خبرا للأول وأضمرت
للثاني خبرا على ما بينا.
وأما قول بعض العرب أنك وزيد ذاهبان فقد ذكر سيبويه أنه غلط من بعض العرب
ا و جعله بمنزلة قول الشاعر - من الطويل -
( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا ) فقال
سابق بالجر على العطف و إن كان المعطوف عليه منصوبا لتوهم حرف الجر فيه و
كذلك قول الآخر - من الطويل -
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة
... ولا ناعب إلا ببين غرابها ) (1/73)
فقال ناعب بالجر بالعطف على مصلحين لأنه توهم أن الباء في مصلحين موجودة
ثم عطف عليه مجرورا و إن كان منصوبا و لا خلاف أن هذا نادر لا يقاس عليه
فكذلك ههنا فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
ظننت و أخواتها***** (/)
إن قال قائل على كم ضربا تستعمل هذه الأفعال قيل أما ظننت فتستعمل على
ثلاثة أوجه أحدها بمعنى الظن و هو ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر و
الثاني بمعنى اليقين قال الله تعالى ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) و
قال تعالى ( فظنوا أنهم مواقعوها ) وقال الشاعر - من الطويل
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد ) و هذان يتعديان
إلى مفعولين
والثالث بمعنى التهمة كقوله تعالى ( وما هو على الغيب بظنين ) في قراءة من
قرا بالظاءا أي بمتهم وهذا يتعدى إلى مفعول واحد وأما خلت و حسبت
فتستعملان بمعنى الظن وأما زعمت فتستعمل في القول عن غير صحة قال الله
تعالى زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا وأما علمت فتستعمل على اصلها فتتعدى
إلى مفعولين و تستعمل بمعنى عرفت فتتعدى إلى مفعول واحد قال الله تعالى (
لا تعلمهم نحن نعلمهم ) وأما رأيت فتكون من رؤية القلب فتتعدى إلى مفعولين
نحو رأيت الله غالبا و تكون من رؤية البصر فتتعدى إلى مفعول واحد نحو رأيت
زيدا أي أبصرت زيدا وأما وجدت فتكون بمعنى علمت فتتعدى م - إلى مفعولين ا
نحو وجدت زيدا عالما وتكون بمعنى أصبت فتتعدى إلى مفعول واحد نحو وجدت
الضالة لم وجدانا وقد تكون لازمة في نحو قولهم وجدت في الحزن وجدا و وجدت
في المال وجدا و وجدت في الغضب موجدة وحكى بعضهم وجدانا قال الشاعر - من
الوافر -
( كلانا رد صاحبه بغيظ ... على حنق ووجدان شديد )