الكتاب : أسرار العربية
المؤلف : كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن أبي سعيد الأنباري
فإن
قيل فلم أعملت هذه الأفعال و ليست مؤثرة في المفعول قيل لأن هذه الأفعال و
إن لم تكن مؤثرة إلا أن لها تعلقا بما عملت فيه ألا ترى أن قولك ظننت يدل
على الظن والظن يتعلق بمظنون وكذلك سائرها (1/74)
ثم ليس التأثير شرطا في عمل الفعل وإنما شرط عمله أن يكون له تعلق
بالمفعول فإذا تعلق بالمفعول تعدى إليه سواء كان مؤثرا أو غير مؤثر ألا
ترى أنك تقول ذكرت زيدا فيتعدى إلى زيد وإن لم يكن مؤثرا فيه إلا أنه لما
كان له به تعلق لأن ذكرت يدل على الذكر و الذكر لا بد له من مذكور تعدى
إليه فكذلك ههنا
فإن قيل فلم تعدت إلى مفعولين قيل لأنها لما كانت تدخل على المبتدأ والخبر
بعد استغنائها بالفاعل وكل واحد من المبتدأ والخبر لا بد له من الآخر وجب
أن يتعدى إليهما
فإن قيل فهل يجوز الاقتصار فيها على الفعل والفاعل قيل اختلف النحويون في
ذلك فذهب بعضهم إلى أنه يجوز واستدل عليه بالمثل السائر وهو قولهم من يسمع
يخل فاقتصر على يخل و فيه ضمير الفاعل وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز
واستدلوا على ذلك من وجهين أحدهما أن هذه الأفعال تجاب بما يجاب به القسم
كقوله تعالى ( وظنوا ما لهم من محيص ) فكما لا يجوز الاقتصار على القسم
دون المقسم عليه فكذلك لا يجوز الاقتصار على هذه الأفعال مع فاعلها دون
مفعوليها و الثاني أنا نعلم أن العاقل لا يخلو من ظن أو علم أو شك فإذا
قلت ظننت أو علمت أو حسبت لم يكن فيه فائدة لأنه لا تخلو عن ذلك.
فإن قيل فهل يجوز الاقتصار على أحد المفعولين قيل لا يجوز لأن
هذه الأفعال داخلة على المبتدأ والخبر وكما أن المبتدأ لا بد له من الخبر
والخبر لا بد له من المبتدأ فكذلك لا بد لأحد المفعولين من الآخر.
فإن قيل فلم أوجب إعمال هذه
الأفعال إذا تقدمت وجاز إلغاؤها إذا توسطت أو تأخرت قيل إنما وجب إعمالها
إذا تقدمت لوجهين أحدهما أنها إذا تقدمت فقد وقعت في أعلى مراتبها فوجب
إعمالها ولم يجز إلغاؤها و الثاني أنها إذا تقدمت دل ذلك على قوة العناية
بها و إلغاؤها يدل على اطراحها وقلة الاهتمام بها فلذلك لم يجز الإلغاء مع
التقديم لأن الشيء لا يكون معنيا به مطرحا وأما إذا توسطت أو تأخرت فإنما
جاز إلغاؤها لأن هذه الأفعال لما كانت ضعيفة في العمل و قد مر صدر الكلام
على اليقين لم يتغير الكلام عما اعتمد عليه وجعلت في تعلقها بما قبلها
بمنزلة الظرف فإذا قال زيد منطلق ظننت فكأنه قال زيد منطلق في ظني و كما
أن قولك في ظني لا يعمل فيما قبله فكذلك ما نزل منزلته وأما من أعملها إذا
تأخرت فجعلها متقدمة في التقدير و إن كانت متأخرة في اللفظ مجازا و توسعا
غير أن الإعمال مع التوسط أحسن من الإعمال مع التأخر و ذلك لأنها إذا
توسطت كانت متقدمة من وجه متأخرة من وجه لأنها متأخرة عن أحد الجزئين
متقدمة على الآخر ولا يتم أحد الجزئين إلا بصاحبه فكانت متقدمة من وجه و
متأخرة من وجه فحسن إعمالها كما حسن إلغاؤها فإذا تأخرت عن الجزئين جميعا
كانت متأخرة من كل وجه فكان إلغاؤها احسن من إعمالها لتأخرها وضعف عملها
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
(1/75)
*****باب
الإغراء***** (1/76)
إن قال قائل لم أقيم بعض الظروف و الحروف مقام الفعل قيل طلبا للتخفيف لأن
الأسماء و الحروف أخف من الأفعال فاستعملوها بدلا عنها طلبا للتخفيف فإن
قيل فلم كثر في عليك وعندك ودونك خاصة قيل لأن الفعل إنما يضمر إذا كان
عليه دليل من مشاهدة حال أو غير ذلك و لما كانت على للاستعلاء و المستعلى
يشاهد من تحته و عند للحضرة و من بحضرتك تشاهده و دون للقرب و من بقربك
تشاهده صار هذا بمنزلة مشاهدة حال تدل عليه فلهذا أقيمت مقام الفعل فإن
قيل فلم خص به المخاطب دون الغائب والمتكلم قيل لأن الخاطب يقع الأمر له
بالفعل من غير لام الأمر نحو قم و اذهب فلا يفتقر إلى لام الأمر وأما
الغائب و المتكلم فلا يقع الأمر لهما إلا باللام نحو ليقم زيد و لأقم معه
فيفتقر إلى لام الأمر فلما أقاموها مقام الفعل كرهوا أن يستعملوها للغائب
والمتكلم لأنها تصير قائمة مقام شيئين اللام و الفعل و لم يكرهوا ذلك في
المخاطب لأنها تقوم مقام شيء واحد و هو الفعل وأما قوله عليه السلام ومن
لم يستطع منكم الباءة فعليه الصوم فإنه له وجاء فإنما جاء لأن من كان
بحضرته يستدل بأمره للغائب على أنه داخل في حكمه وأما قول بعض العرب عليه
رجلا ليسني فلا يقاس عليه لأنه كالمثل
فإن قيل فهل يجوز تقديم معمول هذه الكلم عليها أو لا قيل اختلف النحويون
في ذلك فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز تقديم معمولها عليها لأنها فرع على
الفعل في العمل فينبغي أن تتصرف تصرفه وأما الكوفيون فذهبوا إلى جواز
تقديم معمولها عليها و استدلوا على ذلك بقوله تعالى ( كتاب الله عليكم
فنصب كتاب الله ب عليكم و استدلوا أيضا بقول الشاعر - من الرجز
يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا )
( يثنون خيرا و يمجدونكا ... )
و التقدير دونك دلوي ف دلوي في موضع نصب ب دونك فدل على جواز تقديم
معمولها عليها.
و الصحيح ما ذهب إليه
البصريون وأما ما استدل به الكوفيون فلا حجة لهم فيه لأن قوله تعالى (
كتاب الله عليكم ) ليس هو منصوبا بـ عليكم وإنما هو منصوب على المصدر بفعل
مقدر وإنما قدر هذا الفعل لم يظهر لدلالة ما تقدم عليه من قوله تعالى (
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ) الآية لأن في ذلك دلالة على أن ذلك
مكتوب عليهم فنصب كتاب الله على المصدر كقوله تعالى ( و ترى الجبال تحسبها
جامدة و هي تمر مر السحاب صنع الله ) فنصب صنع الله على المصدر بفعل مقدر
دل عليه ما قبله و نحو ذلك قول الشاعر - من الطويل: (1/77)
دأبت إلى أن ينتبت الظل بعدما ... تقاصر حتى كاد في الآل يمصح )
( وجيف المطايا ثم قلعت لصحبتي ... و لم ينزلوا أبردتم فتروحوا ) فنصب
وجيف بفعل دل عليه ما تقدم وأما البيت الذي أنشدوه فلا حجة لهم فيه من
وجهين أحدهما أن قوله دلوي دونكا في موضع رفع لأنه خبر مبتدأ مقدر
والتقدير فيه هذا دلوي دونكا
والثاني أنا نسلم أنه في موضع نصب ولكن بإضمار فعل والتقدير فيه خذ دلوي
دونك و دونك تفسير لذلك الفعل المقدر فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
التحذير***** (1/78)
إن قال قائل ما وجه التكرير إذا أرادوا التحذير في نحو قولهم ا الأسد
الأسد قيل أنهم أرادوا أن يجعلوا أحد الاسمين قائما مقام الفعل الذي هو
احذر و لهذا إذا كرروا لم يجز إظهار الفعل و إذا حذفوا أحد الاسمين جاز
إظهار الفعل فدل على أن أحد الاسمين قائم مقام الفعل فإن قيل فأي الاسمين
أولى بأن يقوم مقام الفعل قيل أولى الاسمين بأن يقوم مقام الفعل هو الأول
لأن الفعل يجب أن يكون مقدما على الاسم الثاني لأنه مفعول فكذلك الاسم
الذي يقوم مقام الفعل ينبغي أن يكون مقدما فإن قيل فلم انتصب قولهم إياك
والشر قيل لأن التقدير فيه إياك احذر فإياك منصوب ب احذر و الشر معطوف
عليه وقيل أصله إياك احذر من الشر فموضع الجار والمجرور النصب فلما حذف
حرف الجر صار النصب فيما بعده فإن قيل فلم قدروا الفعل بعد إياك و لم
يقدروه قبله قيل لأن إياك ضمير المنصوب المنفصل فلا يجوز أن يقع الفعل
قبله لأنك لو أتيت به قبله لم يجز أن تأتي به بلفظه لأنك تقدر على الضمير
المنصوب المتصل و هو الكاف ألا ترى أنك لو قلت ضربت إياك لم يجز لأنك تقدر
على أن تقول ضربتك فأما قول الشاعرا - من الرجز - إليك حتى بلغت إياكا
فشاذ لا يقاس علية فإن قيل فلم لم يستعملوا لفظ الفعل مع إياك كما
استعملوه مع غيره قيل إنما خصت إياك بهذا لأنها لا تكون إلا في موضع نصب
لأنها ضمير المنصوب المنفصل فصارت بنية لفظه تدل على كونه مفعولا فلم
يستعملوا معه لفظ الفعل بخلاف غيره من الأسماء فإنه يجوز أن يقع مرفوعا
ومنصوبا ومجرورا إذ ليس في بنية لفظه ما يدل على كونه مفعولا فاستعملوا
معه لفظ الفعل
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
المصدر***** (1/79)
إن قال قائل لم كان المصدر منصوبا قيل لوقوع الفعل عليه وهو المفعول
المطلق فإن قيل هل الفعل مشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل قيل
اختلف النحويون في ذلك فذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر
واستدلوا على ذلك من سبعة أوجه الوجه الأول أنه سمي مصدرا والمصدر هو
الموضع الذي تصدر عنه الإبل فلما سمي مصدرا دل على أنه قد صدر عنه الفعل و
الوجه الثاني أن المصدر يدل على زمان مطلق و الفعل يدل على زمان معين فكما
أن المطلق اصل للمقيد فكذلك المصدر أصل للفعل والوجه الثالث أن الفعل يدل
على شيئين و المصدر يدل على شيء واحد و كما أن الواحد قبل الاثنين فكذلك
يجب أن يكون المصدر قبل الفعل
و الوجه الرابع أن المصدر اسم وهو يستغني على الفعل والفعل لا بد له من
الاسم وما يكون مفتقرا إلى غيره و لا يقوم بنفسه أولى بأن يكون فرعا مما
لا يكون مفتقرا إلى غيره و الوجه الخامس أن المصدر لو كان مشتقا من الفعل
لوجب أن يدل على ما في الفعل من الحدث والزمان ومعنى ثالث كما دلت أسماء
الفاعلين والمفعولين على الحدث وعلى ذات الفاعل و المفعول به فلما لم يكن
المصدر كذلك دل على أنه ليس مشتقا من الفعل و الوجه السادس أن المصدر لو
كان مشتقا من الفعل لوجب أن يجري على سنن واحد ولم يختلف كما لم تختلف
أسماء الفاعلين والمفعولين فلما اختلف المصدر اختلاف سائر الأجناس دل على
أن الفعل مشتق منه.
والوجه السابع أن الفعل يتضمن المصدر و المصدر لا يتضمن الفعل ألا ترى أن
ضرب يدل على ما يدل عليه الضرب و الضرب لا يدل على ما يدل عليه ضرب و إذا
كان كذلك دل على أن المصدر أصل و الفعل فرع و صار هذا كما تقول في الأواني
المصوغة من الفضة فإنها فرع عليها و مأخوذة منها وفيها زيادة ليست في
الفضة لأن الأواني فضة و ليست الفضة بأوان فدل على أن الفعل مأخوذ من
المصدر كما كانت الأواني مأخوذة من الفضة فكذلك ههنا.
وأما الكوفيون فذهبوا إلى أن
المصدر مأخوذ ملي الفعل و استدلوا على ذلك من ثلاثة أوجه الوجه الأول أن
المصدر يعتل لاعتلال الفعل و يصح لصحته تقول قمت قياما فيعتل المصدر
لاعتلال الفعل و تقول قاوم قواما فيصح المصدر لصحة الفعل فدل على أنه فرع
عليه و الوجه الثاني أن الفعل يعمل في المصدر و لا شك أن رتبة العامل قبل
ا لمعمول و الوجه الثالث أن المصدر يذكر توكيدا للفعل و لا شك أن رتبة
المؤكد قبل رتبة المؤكد فدل على أن المصدر مأخوذ من الفعل و الصحيح ما ذهب
إليه البصريون وأما ما استدل به الكوفيون ففاسد أما قولهم أنه يصح لصحة
الفعل ويعتل لاعتلاله قلنا إنما صح لصحته و اعتل لاعتلاله طلبا للتشاكل
ليجري الباب على سنن واحد لئلا تختلف طرق تصاريف الكلمة و هذا لا يدل على
الأصل والفرع ألا ترى أنهم قالوا يعد والأصل فيه يوعد فحذفوا الواو
لوقوعها بين ياء و كسرة و قالوا أعد و نعد و تعد فحذفوا الواو و إن لم تقع
بين ياء و كسرة حملا على يعد لئلا (1/80)
تختلف طرق تصاريف الكلمة، وكذلك قالوا أكرم و الأصل فيه أأكرم إلا أنهم
حذفوا إحدى الهمزتين استثقالا لاجتماعهما ثم قالوا يكرم و تكرم و نكرم
فحذفوا الهمزة و إن لم تجتمع همزتان حملا على أكرم ليجري الباب على سنن
واحد فكذلك ههنا وأما قولهم أن الفعل يعمل في المصدر فلنا هذا لا يدل على
أنه أصل له ا فإنا أجمعنا على أن الحروف تعمل في الأسماء والأفعال و لا شك
أن الحروف ليست أصلا للأسماء ولا للأفعال
فكذلك ههنا وأما قولهم إن المصدر يذكر يأكيدا للفعل قلنا هذا لا يدل على
أنه فرع عليه ألا ترى أنك تقول جاءني زيد زيد و رأيت زيدا زيدا و لا يدل
هذا على أن زيدا الثاني فرع على الأول فكذلك ههنا و قد بينا هذا مستوفى في
المسائل الخلافية.
فإن قيل فلم كان قولهم سرت
أشد السير منصوبا على المصدر قيل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعض له و
قد أضيف إلى المصدر الذي هو السير فلما أضيف إلى المصدر كان مصدرا فانتصب
انتصاب المصادر كلها (1/81)
فإن قيل فعلى ماذا ينتصب قولهم قعد القرفصاء و نحوه قيل ينتصب على المصدر
بالفعل الذي قبله لأن القرفصاء لما كانت نوعا من القعود والفعل الذي هو
قعد يتعدى إلى جنس القعود الذي يشتمل على القرفصاء و غيرها تعدى إلى
القرفصاء التي هي نوع منه لأنه إذا عمل في الجنس عمل في النوع إذ كان
داخلا تحته هذا مذهب سيبويه وذهب أبو بكر بن السراج إلى أنه صفة لمصدر
محذوف والتقدير فيه قعد القعدة القرفصاء إلا أنه حذف الموصوف و أقام الصفة
مقامه و الذي عليه الأكثرون مذهب سيبويه لأنه لا يفتقر إلى تقدير موصوف و
ما ذهب إليه ابن السراج يفتقر إلى تقدير موصوف وما لا يفتقر إلى تقدير
أولى مما يفتقر إلى تقدير فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
المفعول فيه***** (1/82)
فيه إن قال قائل ما المفعول فيه قيل هو الظرف و هو كل اسم من أسماء الزمان
أو المكان يراد فيه معنى في وذلك نحو صمت اليوم و قمت الليلة و جلست مكانك
و التقدير فيه صمت في اليوم و قمت في الليلة و جلست في مكانك و ما أشبه
ذلك فإن قيل فلم سمي ظرفا قيل لأنه لما كان محلا للأفعال سمي ظرفا تشبيها
بالأواني التي محل الأشياء فيها و لهذا يسمي الكوفيون الظروف محال لحلول
الأفعال فيها فإن قيل فلم لم يبنوا الظروف لتضمنها معنى الحرف قيل لأن
الظروف وإن نابت عن الحرف إلا أنها لم تتضمن معناه و الذي يدل على ذلك أنه
يجوز إظهاره مع لفظها و لو كانت متضمنة للحرف لم يجز إظهاره ألا ترى أن
متي و أين و كيف لما تضمنت معنى همزة الاستفهام لم يجز إظهار الهمزة معها
فلما جاز إظهاره ههنا دل على أنها لم تتضمن معناه وإذا لم تتضمن معناه وجب
أن تكون معربة على أصلها فإن قيل فلم تعدى الفعل اللازم إلى جميع ظروف
الزمان ولم يتعد إلى جميع ظروف المكان قيل لأن الفعل يدل على جميع ظروف
الزمان بصيغته كما يدل على جميع ضروب المصادر و كما أن الفعل يتعدى إلى
جميع ضروب المصادر فكذلك يتعدى إلى جميع ظروف الزمان وأما ظروف المكان فلم
يدل عليها الفعل بصيغته ألا ترى أنك إذا قلت ضرب أو سيضرب لم يدل على مكان
دون مكان كما يكون فيه دلالة على زمان دون زمان فلما لم يدل الفعل على
ظروف المكان بصيغته صار الفعل اللازم منه بمنزلته من زيد وعمرو وكما أن
الفعل اللازم لا يتعدى بنفسه إلى زيد وعمرو فكذلك لا يتعدى إلى ظروف
المكان فإن قيل فلم تعدى إلى الجهات الست ونحوها من ظروف المكان قيل لأنها
أشبهت ظروف الزمان من وجهين أحدهما أنها مبهمة غير محدودة ألا ترى أنك إذا
قلت خلف زيد كان غير محدود و كان هذا اللفظ مشتملا على جميع ما يقابل ظهره
إلى أن تنقطع الأرض كما أنك إذا قلت أمام زيد كان
أيضا غير محدود وكان هذا
اللفظ مشتملا على جميع ما يقابل وجهه إلى أن تنقطع الأرض كما أنك إذا قلت
قام دل على كل زمان ماض من أول ما خلق الله تعالى الدنيا إلى وقت حديثك و
إذا قلت يقوم دل على كل زمان مستقبل و الوجه الثاني أن هذه الظروف لا
تتقرر على وجه واحد لأن فوقا يصير تحتا وتحتا يصير فوقا كما أن الزمان
المستقبل يصير حاضرا و الحاضر يصير ماضيا فلما أشبهت ظروف الزمان تعدى
الفعل إليها كما يتعدى إلى ظروف الزمان فإن قيل فكيف قالوا زيد مني معقد
الإزار ومقعد القابلة و مناط الثريا و هما خطان جنابتي أنفها يعني الخطين
اللذين يكتنفان أنف الظبية وهي كلها مخصوصة قيل الأصل فيها كلها أن تستعمل
بحرف الجر إلا أنهم حذفوا حرف الجر في هذه المواضع اتساعا كقول الشاعر -
من الكامل - (1/83)
( فلأبغينكم قنا وعوارضا ... و لأقبلن الخيل لابة ضرغد )
وكقول الآخر - من الكامل -
( لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب ) أراد في الطريق
و من حقها أن تحفظ و لا يقاس عليها فأما قولهم دخلت البيت فذهب أبو عمر
الجرمي إلى أن دخلت فعل متعد تعدى إلى البيت فنصبه كقولك بنيت البيت و ما
أشبه ذلك وذهب الأكثرون إلى أن دخلت فعل لازم و كان الأصل فيه أن يستعمل
معه حرف الجر إلا أنه حذف حرف الجر اتساعا على ما بينا و هذا هو الصحيح
والدليل على أن دخلت فعل لازم من وجهين أحدهما أن مصدره يجيء على فعول وهو
من مصادر الأفعال اللازمة ك قعد قعودا و جلس جلوسا و ما أشبه ذلك و الوجه
الثاني أن نظيره فعل لازم و هو غرت و نقيضه فعل لازم وهو خرجت فيقتضي أن
يكون لازما حملا على نظيره و نقيضه فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
المفعول معه***** (1/84)
إن قال قائل ما العامل النصب في المفعول معه قيل اختلف النحويون في ذلك
فذهب البصريون إلى أن العامل فيه هو الفعل و ذلك لأن الأصل في نحو قولهم
استوى الماء والخشبة مع الخشبة إلا أنهم أقاموا الواو مقام مع توسعا في
كلامهم فقوي الفعل بالواو فتعدى إلى الاسم فنصبه كما قوي بالهمزة في قولك
أخرجت زيدا و نظير هذا نصبهم الاسم في باب الاستثناء بالفعل المتقدم
بتقوية إلا نحو قام القوم إلا زيدا فكذلك ههنا المفعول معه منصوب بالفعل
المتقدم بتقوية الواو وذهب الكوفيون إلى أن المفعول معه منصوب على الخلاف
وذلك لأنه إذا قال استوى الماء الحشبة لا يحسن تكرير الفعل فيقال استوت
الماء استوت الخشبه لأن الخشبة لم تكن معوجة فتستوي فلما لم يحسن
تكريرالفعل كما يحسن في جاء زيد و عمرو فقد خالف الثاني الأول فانتصب على
الخلاف وذهب أبو اسحق الزجاج إلى أنه منصوب بعامل مقدر والتقدير فيه استوى
الماء ولابس الخشبة وزعم أن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما ا لواو
والصحيح هو الأول وأما قول الكوفيين أنه منصوب على الخلاف لأنه لا يحسن
تكرير الفعل قلنا هذا هو الموجب لكون الواو غير عاملة وأن الفعل هو العامل
بتقويتها لا بنفس المخالفة و لو جاز أن يقال مثل ذلك لجاز أن يقال أن زيدا
في قولك ضربت زيدا منصوب لكونه مفعولا لا بالفعل و ذلك محال لأن كونه
مفعولا يوجب أن يكون ضربت هو العامل فيه النصب فكذلك ههنا
وأما قول الزجاج أنه ينتصب بتقدير عامل لأن الفعل لا يعمل في المفعول
وبينهما الواو فليس بصحيح أيضا لأن الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي
يتصل به المفعول فإن كان الفعل لا يفتقر إلى تقوية تعدى إلى المفعول بنفسه
و إن كان يفتقر إلى تقوية بحرف الجر أو غيره عمل بتوسطه ألا ترى أنك تقول
أكرمت زيدا وعمرا فتنصب عمرا ب أكرمت كما تنصب زيدا به ولم تمنع الواو من
وقوع أكرمت على ما بعدها فكذلك ههنا.
فإن قيل لم حذفت مع وأقيمت
الواو مقامها قيل حذفت مع وأقيمت الواو مقامها توسعا في كلامهم طلبا
للتخفيف والاختصار فإن قيل فلم كانت الواو أولي من غيرها قيل إنما كانت
الواو أولى من غيرها لأن الواو في معنى مع لأن معنى مع المصاحبة ومعنى
الواو الجمع فلما كانت في معنى مع كانت أولي من غيرها فإن قيل فهل يجوز
تقديم المنصوب ههنا على الناصب قيل لا يجوز ذلك لأن حكم الواو ألا تتقدم
على ما قبلها (1/85)
وهذا الباب من النحويين من يجري فيه القياس ومنهم من يقصره على السماع
والأكثرون على القول الأول فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
المفعول له***** (1/86)
إن قال قائل ما العامل في المفعول له النصب قيل العامل في المفعول له
الفعل الذي قبله نحو جئتك طمعا في برك وقصدتك ابتغاء معروفك وكان الأصل
فيه جئتك للطمع في برك و قصدتك لابتغاء معروفك إلا أنه حذف اللام فاتصل
الفعل به فنصبه فإن قيل فلم تعدى إليه الفعل اللازم كالمتعدي قيل لأن
العاقل لما كان لا يفعل شيئا إلا لعلة وهي علة للفعل و عذر لوقوعه كان في
الفعل دلالة عليه فلما كان فيه دلالة عليه تعدى إليه
فإن قيل فهل يجوز أن يكون معرفة ونكرة قيل نعم يجوز أن يكون معرفة ونكرة
والدليل على ذلك قوله تعالى ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة
الله وتثبيتا من أنفسهم ) ف ابتغاء مرضاة الله معرفة بالإضافة و تثبيتا
نكرة و قال الشاعر - من الطويل -
( وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم ) اللئيم تكرما ف ادخاره
معرفة بالإضافة وتكرما نكرة وقال الآخر - من الرجز
يركب كل عاقر جمهور مخافة وزعل المحبور ... )
( والهول من تهول الهبور ... ) وذهب أبو عمر الجرمي إلى أنه لا يجوز أن
يكون إلا نكرة ويقدر الإضافة في هذه المواضع في نية الانفصال فلا يكتسي
التعريف من المضاف إليه كقولهم مررت برجل ضارب زيدا غدا قال الله تعالى (
هذا عارض ممطرنا ) وقال الشاعر - من الكامل - ( سل الهموم بكل معطي رأسه
... ناج مخالط صهبة متعيس )
والذي عليه الجمهور والمذهب المشهور هو الأول و ما ادعاه الجرمي من كون
الإضافة في نية الانفصال يفتقر إلى دليل ثم لو صح هذا في الإضافة فكيف يصح
له في لام التعريف في قول الشاعر والهول من تهول الهبور
وما أشبهه فإن قيل فهل يجوز تقديم المنصوب ههنا على الناصب قيل نعم يجوز
ذلك لأن العامل فيه يتصرف ولم يوجد ما يمنع من جواز تقديمه كما وجد في
المفعول معه فكان جائرا على الأصل وهذا الباب إنما يترجمه البصريون وأما
الكوفيون فلا يترجمونه و يجعلونه من باب المصدر فلا يفردون له بابا فاعرفه
تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
الحال***** (1/87)
إن قال قائل ما الحال قيل هيئة الفاعل أو المفعول ألا ترى أنك إذا قلت
جاءني زيد راكبا كان الركوب هيئة زيد عند وقوع المجيء منه وإذا قلت ضربته
مشدودا كان الشد هيئته عند وقوع الضرب له
فإن قيل فهل تقع الحال من الفاعل والمفعول معا بلفظ واحد قيل يجوز ذلك
والدليل عليه قول الشاعر - من الطويل -
( تعلقت ليلى هي ذات مؤصد ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم )
( صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم )
فنصب صغيرين على الحال من التاء في تعلقت وهي فاعلة ومن ليلى وهي مفعولة
وقال الآخر
( متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا )فنصب فردين على
الحال من ضمير الفاعل والمفعول في تلقنى وهذا كثير في كلامهم فإن قيل فما
العامل في الحال النصب قيل ما قبلها من العامل وهو على ضربين فعل ومعنى
فعل فإن كان فعلا نحو جاء زيد راكبا جاز أن يتقدم الحال عليه نحو راكبا
جاء زيد لأن العامل لما كان متصرفا تصرف عمله فجاز تقديم معموله عليه وإن
كان العامل فيه معنى فعل نحو هذا زيد قائما لم يجز تقديم الحال عليه فلو
قلت قائما هذا زيد لم يجز لأن معنى الفعل لا يتصرف تصرفه فلم يجز تقديم
معموله عليه وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز تقديم الحال على العامل في الحال
سواء كان العامل فيه فعلا أو معنى فعل وذلك لأنه يؤدي إلى أن يتقدم المضمر
على المظهر فإنه إذا قال راكبا جاء زيد ففي راكب ضمير زيد وقد تقدم عليه
وتقدم المضر على المظهر لا يجوز وهذا ليس بشيء لأن راكبا وإن كان مقدما في
اللفظ إلا أنه مؤخر في التقدير وإذا كان مؤخرا في التقدير جاز التقديم قال
الله تعالى ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) فالهاء في نفسه عائدة إلى موسى
إلا أنه لما كان في تقدير التقديم و الهاء في تقدير التأخير جاز التقديم و
هذا كثير في كلامهم فكذلك ههنا.
فإن قيل فلم عمل الفعل اللازم في الحال قيل لأن الفاعل لما كان لا يفعل
الفعل إلا في حالة كان في الفعل دلالة على الحال فتعدى إليها كما تعدى إلى
ظرف الزمان لما كان في الفعل دلالة عليه فإن قيل فلم وجب أن تكون الحال
نكرة قيل لأن الحال تجري مجرى الصفة للفعل ولهذا سماها سيبويه نعتا للفعل
والمراد بالفعل المصدر الذي يدل الفعل عليه وإن لم
يذكر، ألا ترى أن جاء يدل على
مجيء وإذا قلت جاء راكبا دل على مجيء موصوف بركوب فإذا كانت الحال تجري
مجرى الصفة للفعل وهو نكرة فكذلك وصفه يجب أن يكون نكرة فأما قولهم أرسلها
العراك وطلبته جهدك وطاقتك و رجع عوده على بدئه فهي مصادر أقيمت مقام
الحال لأن التقدير أرسلها تعترك وطلبته تجتهد و تعترك وتجتهد جملة من
الفعل والفاعل في موضع الحال كأنك قلت أرسلها معتركة وطلبته مجتهدا إلا
أنه أضمر وجعل المصدر دليلا عليه وهذا كثير في كلامهم. (1/88)
وذهب بعض النحويين إلى أن قولهم رجع عوده على بدئه منصوب لأنه مفعول رجع
لأنه يكون متعديا كما يكون لازما قال الله تعالى ( فإن رجعك الله إلى
طائفة منهم ) فأعمل رجع في الكاف التي للخطاب فقال رجعك فدل على أنه يكون
متعديا ومما يدل على أن الحال لا يجوز أن تكون معرفة أنها لا يجوز أن تقوم
مقام الفاعل في ما لم يسم فاعله لأن الفاعل قد يضمر فيكون معرفة فلو جاز
أن تكون الحال معرفة لما امتنع ذلك كما لم يمتنع في ظرف الزمان والمكان
والجار والمجرور والمصدر على ما بينا فافهمه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
التمييز***** (1/89)
إن قال قائل ما التمييز قيل هو النكرة المفسرة للمبهم فإن قيل فما العامل
فيه النصب قيل فعل وغير فعل فأما ما كان العامل فيه فعلا فنحوا تصبب زيد
عرقا و تفقأ الكبش شحما ف عرقا و شحما كل واحد منهما منصوب بالفعل الذي
قبله فإن قيل هل يجوز تقديم هذا النوع على العامل فيه قيل اختلف النحويون
في ذلك فذهب سيبويه إلى أنه لا يجوز تقديم هذا النوع على عامله وذلك لأن
المنصوب ههنا هو الفاعل في المعنى ألا ترى أنك إذا قلت تصبب زيد عرقا كان
الفعل للعرق في المعنى لا لزيد فلما كان هو الفاعل في المعنى لم يجز
تقديمه كما لو كان فاعلا لفظا وذهب أبو عثمان المازني و أبو العباس المبرد
و من وافقهما إلى أنه يجوز تقديمه على العامل فيه فيه و استدلوا على ذلك
بقول الشاعر - من الطويل
( أتهجر سلمى للفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب ) ولأن هذا
العامل فعل متصرف فجاز تقديم معموله عليه كما جاز تقديم الحال على العامل
فيها نحو راكبا جاء زيد لأنه فعل متصرف فكذلك ههنا والصحيح ما ذهب إليه
سيبويه وأما ما استدل به المبرد والمازني من البيت فإن الرواية الصحيحة
فيه وما كان ا نفسي بالفراق تطيب وذلك لا حجة فيه ولئن صحت تلك الرواية
فنقول نصب نفسا بفعل مقدر كأنه قال أعني نفسا وأما قولهم أنه فعل متصرف
فجاز تقديم معموله عليه كالحال قلنا هذا العامل وان كان فعلا متصرفا إلا
أن هذا المنصوب هو الفاعل في المعنى فلا يجوز تقديمه على ما بينا وأما
تقديم الحال على العامل فيها فإنما جازا لأنك إذا قلت جاء زيد راكبا كان
زيد هو الفاعل لفظا ومعنى و إذا استوفى الفعل فاعله تنزل راكبا منزلة
المفعول المحض فجاز تقديمه كالمفعول نحو عمرا ضرب زيد بخلاف التمييز فإنك
إذا قلت تصبب زيد عرقا لم يكن زيد هو الفاعل في المعنى وكان الفاعل في
المعنى هو العرق فلم يكن عرقا في حكم المفعول من هذا الوجه لأن الفعل قد
استوفى فاعله لفظا لا معنى فلم يجز تقديمه كما لا يجوز تقديم الفاعل وأما
ما كان العامل فيه غير فعل نحو عندي عشرون رجلا و خمسة عشر درهما وما أشبه
ذلك فالعامل فيه هو العدد لأنه مشبه بالصفة المشبهة باسم الفاعل نحو حسن و
شديد و ما أشبه ذلك.
ووجه المشابهة بينهما أن
العدد يوصف به كما يوصف بالصفة المشبهة باسم الفاعل فإذا كان في العدد نون
نحو عشرون أو تنوين مقدر نحو خمسة عشر صار النون والتنوين مانعين من
الإضافة كالفاعل الذي يمنع المفعول من الرفع فصار التمييز فضلة كالمفعول
وكذلك حكم ما كان منصوبا على التمييز مما كان قبله حائل نحو لي مثله غلاما
ولله دره رجلا فإن الهاء منعت الاسم بعدها أن ينجر بإضافة ما قبلها إليه
كالفاعل الذي يمنع المفعول من الرفع فنصب على التمييز لما ذكرناه فإن قيل
فلم وجب أن يكون التمييز نكرة قيل لأنه يبين ما قبله كما أن الحال تبين ما
قبلها فلما أشبه الحال وجب أن يكون نكرة كما أن الحال نكرة فأما قول
الشاعر - من الخفيف - (1/90)
( ولقد أغتدي وما صقع الديك ... على أدهم أجش الصهيلا )
وقول الآخر - من الوافر -
( أجب الظهر ليس له سنام ... ) بنصب الصهيل و الظهر فالصحيح أنه منصوب على
التشبيه بالمفعول كالضارب الرجل فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
الاستثناء***** (1/91)
إن قال قائل ما الاستثناء قيل إخراج بعض من كل بمعنى إلا نحو جاءني القوم
إلا زيدا فإن قيل فما العامل في المستثنى النصب من الموجب قيل اختلف
النحويون في ذلك
فذهب البصريون إلى أن العامل هو الفعل بتوسط إلا وذلك لأن هذا الفعل و إن
كان لازما في الأصل إلا أنه قوي ب إلا فتعدى إلى المستثني كما تعدى الفعل
بالحروف المعدية ونظيره نصبهم الاسم في باب المفعول معه نحو استوى الماء
والخشبة فإن الاسم منصوب بالفعل المتقدم بتقوية الواو فكذلك ههنا وذهب بعض
النحويين إلى أن العامل هو إلا بمعنى استثنى وهو قول الزجاج من البصريين.
وذهب الفراء من الكوفيين إلى أن إلا مركبة من أن و لا ثم خففت أن وأدغمت
في لا فهي تنصب في الإيجاب اعتبارا ب إن وترفع في النفي اعتبارا ب لا
والصحيح قول البصريين وأما قول بعض النحويين والزجاج أن العامل هو إلا
بمعنى استثنى ففاسد من خمسة أوجه الوجه الأول أنه لو كان الأمر كما زعموا
لوجب ألا يجوز في المستثنى إلا النصب و لا خلاف في جواز الرفع و الجر في
النفي على البدل نحو ما جاءني أحد إلا زيد وما مررت بأحد إلا زيد والوجه
الثاني أن هذا يؤدي إلى إعمال معاني الحروف وإعمال معاني الحروف لا يجوز
ألا ترى أنك تقول ما زيد قائما ولو قلت ما زيدا قائما على معنى نفيت زيدا
قائما لم يجز فكذلك ههنا والوجه الثالث أنه يبطل بقولهم قام القوم غير زيد
فإن غير منصوب فلا يخلو إما أن يكون منصوبا بتقدير إلا وإما أن يكون
منصوبا بنفسه وإما أن يكون منصوبا بالفعل الذي قبله بطل أن يقال أنه منصوب
بتقدير إلا لأنا لو قدرنا إلا لفسد المعنى لأنه يصير التقدير فيه قام
القوم إلا غير زيد وهذا فاسد
وبطل أيضا أن يقال أنه يعمل في نفسه لأن الشيء لا يعمل في نفسه فوجب أن
يكون العامل هو الفعل المتقدم وإنما جاز أن يعمل فيه و إن كان لازما لأن
غير موضوعة على الإبهام ألا ترى أنك تقول مررت برجل غيرك فيكون كل من عدا
المخاطب داخلا تحت غير فلما كان فيه هذا الإبهام المفرط أشبه الظروف
المبهمة نحو خلف وأمام ووراء وقدام وما أشبه ذلك وكما أن الفعل يتعدى إلى
هذه الظروف من غير واسطة فكذلك ههنا
والوجه الرابع أنا نقول لماذا قدرتم أستثني زيدا وهلا قدرتم امتنع زيد كما
حكي عن أبي علي الفارسي أنه كان مع عضد الدولة في الميدان فسأله عضد
الدولة عن المستثنى بماذا ينتصب فقال له أبو علي ينتصب لأن التقدير أستثني
زيدا فقال له عضد الدولة و هلا قدرت امتنع زيد فرفعته فقال له أبو على هذا
الجواب الذي ذكرته لك جواب ميداني و إذا
رجعنا ذكرت لك الجواب الصحيح
إن شاء الله تعالى. (1/92)
والوجه الخامس أنا إذا أعملنا معنى إلا كان الكلام جملتين وإذا أعملنا
الفعل بتقوية إلا كان الكلام جملة واحدة والكلام متى كان جملة واحدة كان
أولى من تقدير جملتين وأما قول الفراء أن إلا مركبة من إن و لا فدعوى
تفتقر إلى دليل ولو قدرنا ذلك فنقول الحرف إذا ركب مع حرف آخر تغير عما
كان عليه في الأصل قبل التركيب ألا ترى أن لو حرف يمتنع به الشيء لامتناع
غيره فإذا ركبت مع ما تغير ذلك المعنى وصارت بمعنى هلا فكذلك أيضا إذا
ركبت مع لا كقوله - من الطويل -( لولا الكمي المقنعا ... ) وما أشبه ذلك
فكذلك ههنا
فإن قيل فبماذا يرتفع المستثنى في النفي قيل يرتفع على البدل ويجوز النصب
على أصل الباب فإن قيل فلم كان البدل أولى قيل لوجهين أحدهما لموافقة
اللفظ فأنه إذا كان المعنى واحدا فكون اللفظ موافقا أولى لأن اختلاف اللفظ
يشعر باختلاف المعنى فإذا اتفقا كان موافقة اللفظ أولى والوجه الثاني أن
البدل يجري في تعلق العامل به كمجراه لو ولى العامل والنصب في الاستثناء
على التشبيه بالمفعول فلما كان البدل أقوى في حكم العامل كان الرفع أولى
من النصب على ما بينا فإن قيل فلم جاز البدل في النقي ولم يجز في الإيجاب
قيل لأن البدل في الإيجاب يؤدي إلى محال وذلك لأن المبدل منه يجوز أن يقدر
كأنه ليس في الكلام فإذا قدرنا هذا في الإيجاب كان محالا لأنه يصير
التقدير جاءني إلا زيد ويصير المعنى أن جميع الناس جاءوني غير زيد وهذا لا
يستحيل في النفي كما يستحيل في الإيجاب لأنه يجوز ألا يجيئه أحد سوى زيد
فبان الفرق بينهما فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
ما يجرّ به في الإستثناء***** (1/93)
إن قال قائل لم أعربت غير إعراب الأسم الواقع بعد إلا دون سوى وسواء قيل
لأن غير لما أقيمت ههنا مقام إلا وكان ما بعدها مجرورا بالإضافة ولا بد
لها في نفسها من إعراب أعربت إعراب الاسم الواقع بعد إلا ليدل بذلك على ما
كان يستحق الاسم الذي بعد إلا من الإعراب ويبقى حكم الاستثناء فأما سوى
وسواء فلزمهما النصب لأنهما لا يكونان إلا ظرفين فلم يجز نقل الإعراب
إليهما كما جاز في غير لأن ذلك يؤدي إلى تمكنهما وهما لا يكونان متمكنين
فلذلك لم يجز أن يعربا إعراب الأسم الواقع بعد إلا.
وأما حاشا فاختلف النحويون فيها فذهب سيبويه ومن تابعه من البصريين إلى
أنه حرف جر وليس بفعل والدليل على ذلك أنه لو كان فعلا لجاز ان يدخل عليه
ما كما يجوز أن تدخل على الأفعال فيقال ما حاشا زيدا كما يقال ما خلا زيدا
فلما لم يقل دل على أنه ليس بفعل فوجب أن يكون حرفا وذهب الكوفيون إلى أنه
فعل ووافقهم أبو العباس المبرد من البصريين واستدلوا على ذلك من ثلاثة
أوجه الوجه الأول أنه يتصرف والتصرف من خصائص الأفعال قال النابغة - من
البسيط -
( ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... ) ولا أحاشي من الأقوام من أحد )
فإذا ثبت أنه متصرف وجب أن يكون فعلا والوجه الثاني أنه يدخله الحذف
والحذف إنما يكون في الفعل لا في الحرف ألا ترى أنهم قالوا في حاشا لله
حاش لله ولهذا قرأ أكثر - القراء حاش لله بإسقاط الألف
والوجه الثالث أن لام الجر تتعلق به في قولهم حاشا لله وحرف الجر إنما
يتعلق بالفعل لا بالحرف لأن الحرف لا يتعلق بالحرف.
*حذف*
والصحيح ما ذهب إليه البصريون
وأما قول الكوفيين أنه يتصرف بدليل قوله وما احاشي فليس فيه حجة لأن قوله
أحاشي مأخوذ من لفظ حاشى وليس متصرفا منه كما يقال بسمل وهلل وحمدل وسبحل
وحولق إذا قال بسم الله ولا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله ولا حول
ولا قوة إلا بالله وإذاكانت هذه الأشياء لا تتصرف فكذلك ههنا وقولهم أنه
يدخله الحذف والحذف لا يدخل الحرف قلنا لا نسلم بل الحذف يدخل الحرف ألا
ترى أنهم قالوا في رب رب وقد قرئ بهما قال الله تعالى ( ربما يود الذين
كفروا لو كانوا مسلمين) قرئ بالتشديد والتخفيف وفي رب أربع لغات بضم الراء
وتشديد الباء وتخفيفها و بفتح الراء وتشديد الباء وتخفيفها وكذلك حكيتم عن
العرب أنهم قالوا في سوف أفعل سو افعل وهو حرف وزعمتم أن الأصل في سأفعل
سوف افعل فحذفت الفاء والواو معا فدل على أن الحذف يدخل الحرف وأما قولهم
أن لام الجر تتعلق به قلنا لا نسلم فإن اللام في قولهم حاش لله زائدة لا
تتعلق بشيء كقوله تعالى ( عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ
الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي ردفكم وكقوله تعالى ( للذين هم لربهم يرهبون
) وما أشبه ذلك وإنما زيدت اللام مع هذا الحرف تقوية له لما كان يدخله من
الحذف فدل على أنه ليس بفعل وأنه حرف. (1/94)
وأما خلا فإنها تكون فعلا وحرفا، فإذا كانت فعلا كان ما بعدها منصوبا
وتتضمن ضمير الفاعل وإذا كانت حرفا كان ما بعدها مجرورا لأنها حرف جر فإن
دخل عليها ما كانت فعلا ولم يجز أن تكون حرفا لأنها معما بمنزلة المصدر
وإذا كانت فعلا كان ما بعدها منصوبا لا غير قال الشاعر - من الطويل - ألا
كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل وسنذكرها في باب ما ينصب
به في الاستثناء.
*****باب
ما ينصب به في الاستثناء***** (1/96)
قال قائل لم عملت ما خلا وما عدا وليس ولا يكون النصب قيل لأنها أفعال أما
ما خلا وما عدا فهما فعلان لأن ما إذا دخلت عليهما كانا معها بمنزلة
المصدر وإذا كانا معها بمنزلة المصدر انتفت عنهما الحرفية ووجبت لهما
الفعلية وكأن فيهما ضمير الفاعل فكان ما بعدهما منصوبا ويحكى عن بعض العرب
أنه كان يجر ب عدا إذا لم يكن معها ما فيجريها مجرى خلا تارة تكون فعلا
فيكون ما بعدها منصوبا وتارة تكون حرفا فيكون ما بعدها مجرورا و أما
سيبويه فلم يذكر بعد عدا إلا النصب لا غير، وأما ليس ولا يكون فإنما وجب
أن يكون ما بعدهما منصوبا لأنه خبر لهما لأن التقدير في قولك جاءني القوم
ليس زيدا ولا يكون عمرا أي ليس بعضهم زيدا ولا يكون بعضهم عمرا ف بعضهم
الاسم وما بعده الخبر وخبر ليس ولا يكون منصوب كما لو لم يكونا في باب
الاستثناء
فإن قيل فلم لزما لفظا واحدا في التثنية والجمع والتأنيث قيل لأنهما لما
استعملا في الاستثناء قاما مقام إلا و إلا لا يتغير لفظه فكذلك ما قام
مقامه ليدل على أنه قائم مقامه فإن قيل فلم لا يجوز أن يعطف عليهما بالواو
و لا فيقال ضربت القوم ليس زيدا ولا عمرا وأكرمت القوم لا يكون زيدا ولا
عمرا قيل لأن العطف بالواو و لا لا يكون إلا بعد النفي فلما أقيما ههنا
مقام إلا غيرا عن أصلهما في النفي فلم يجز العطف عليهما بالواو و لا
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
كم***** (1/97)
إن قال قائل لم بنيت كم على السكون قيل إنما بنيت لأنها لا تخلو إما أن
تكون استفهامية أو خبرية فإن كانت استفهامية فقد تضمنت معنى حرف الاستفهام
وإن كانت خبرية فهي نقيضة رب لأن رب للتقليل و كم للتكثير وهم يحملون
الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره فبنيت كم حملا على رب وإنما بنيت على
السكون لأنه الأصل في البناء فإن قيل فلم وجب أن تقع كم في صدر الكلام قيل
لأنها ان كانت استفهامية فالاستفهام له صدر الكلام وان كانت خبرية فهي
نقيضة رب و رب معناها التقليل والتقليل مضارع للنفي والنفي له صدر الكلام
كالاستفهام
فإن قيل فلم كان ما بعدها في الاستفهام منصوبا وفي الخبر مجرورا قيل للفرق
بينهما فجعلت في الاستفهام بمنزلة عدد ينصب ما بعده، وفي الخبر بمنزلة عدد
يجر ما بعده وإنما جعلت في الاستفهام بمنزلة عدد ينصب ما بعده لأنها في
الاستفهام بمنزلة عدد يصلح للعدد القليل والكثير لأن المستفهم يسأل عن عدد
كثير وقليل ولا يعلم مقدار ما يستفهم عنه فجعلت في الاستفهام بمنزلة العدد
المتوسط بين القليل والكثير وهو من أحد عشر إلى تسعة وتسعين وهو ينصب ما
بعده فلهذا كان ما بعدها في الاستفهام منصوبا وأما في الخبر فلا تكون إلا
للتكثير فجعلت بمنزلة العدد الكثير وهو يجر ما بعده فلهذا كان ما بعدها في
الخبر مجرورا وقيل إنما كان ما بعدها مجرورا في الخبر لأنها نقيضة رب و رب
تجر ما بعدها فكذلك ما حمل عليها فإن قيل فلم جاز النصب مع الفصل في الخبر
قيل إنما جاز النصب عدولا عن الفصل بين الجار والمجرور لأن الجار والمجرور
بمنزلة الشيء الواحد وليس الناصب مع المنصوب بمنزلة الشيء الواحد على أن
بعض العرب ينصب بها في الخبر من غير فصل ويجر بها في الاستفهام حملا
لإحداهما على الأخرى فإن قيل فلم إذا كانت استفهامية لم تبين إلا بالمفرد
النكرة وإذا كانت خبرية جاز أن تبين بالمفرد والجمع قيل لأنها إذا كانت
استفهامية حملت على عدد ينصب ما بعده وذلك لا يبين الا بالمفرد النكرة نحو
أحد عشر رجلا وتسع وتسعون امرأة فلذلك لم يجز أن تبين إلا بالمفرد النكرة
وإذا كانت خبرية حملت على عدد يجر ما بعده والعدد الذي يجر ما بعده يجوز
أن يبين بالمفرد ك مائة درهم وبالجمع ك ثلاثة أثواب فلهذا جاز أن تبين
بالمفرد والجمع وأما اختصاصها بالتنكير فيهما جميعا فلأن كم لما كانت
للتكثير والتكثير والتقليل لا يصح إلا في النكرة لا في المعرفةلأن المعرفة
تدل على شيء مختص فلا يصح فيه التقليل ولا التكثير ولهذا كانت رب تختص
بالنكرة لأنها لما كانت للتقليل والتقليل إنما يصح في النكرة لا في
المعرفة كما بينا في كم فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
العدد***** (1/98)
إن قال قائل لم أدخلت الهاء من الثلاثة إلى العشرة في المذكر نحو خمسة
رجال ولم تدخل في المؤنث نحو خمس نسوة قيل إنما فعلوا ذلك للفرق بينهما
فإن قيل فهلا عكسوا وكان الفرق واقعا قيل لأربعة أوجه الوجه الأول أن
الأصل في العدد أن يكون مؤنثا والأصل في المؤنث أن يكون بالهاء والمذكر هو
الأصل فاخذ الأصل الهاء فبقي المؤنث بغير هاء والوجه الثاني أن المذكر أخف
من المؤنث فلما كان المذكر أخف من المؤنث احتمل الزيادة والمؤنث لما كان
اثقل لم يحتمل الزيادة والوجه الثالث أن الهاء زيدت للمبالغة كما زيدت في
علامة ونسابة والمذكر افضل من المؤنث فكان أولى بزيادتها
والوجه الرابع أنهم لما كانوا يجمعون ما كان على مثال فعال في المذكر
بالهاء نحو غراب وأغربة ويجمعون ما كان على هذا المثال في المؤنث بغير هاء
نحو عقاب وأعقب حملوا العدد على الجمع فأدخلوا الهاء في المذكر وأسقطوها
من المؤنث وكذلك حكمها بعد التركيب إلا العشرة فإنها تتغير لأنها تكون في
حال التركيب في المذكر بغير هاء وفي المؤنث بالهاء لأنه لما ركبوا الآحاد
مع العشرة وصيرت معها بمنزلة اسم واحد كرهوا أن يثبتوا الهاء في العشرة
لئلا تصير بمنزلة الجمع بين تأنيثين في اسم واحد على لفظ واحد فإن قيل فلم
بنى ما زاد على العشرة من أحد عشر إلى تسعة عشر قيل لأن الأصل في أحد عشر
أحد وعشر فلما حذفت واو العطف ضمنا معنى حرف العطف فلما تضمنا معنى الحرف
وجب أن يبنيا وبنيا على حركة لأن لهما حالة تمكن قبل البناء وكان الفتح
أولى لأنه أخف الحركات وكذلك سائرها فإن قيل فلم لم يبنوا اثنين في اثني
عشر قيل لوجهين أحدهما أن علم التثنية فيه هو علم الإعراب فلو نزعوا منه
الإعراب لسقط معنى التثنية والثاني أن إعرابه في وسطه وفي حال التركيب لم
يخرج عن ذلك فوجب أن يبقى على ما كان عليه وبني عشر لوجهين أحدهما أن يكون
بني على قياس أخواته لتضمنه معنى حرف العطف والثاني أن يكون بنى لأنه قام
مقام النون من اثنين فلما قام مقام الحرف وجب أن يبنى وليس هو كالمضاف
والمضاف إليه لأن كل واحد من المضاف والمضاف إليه له حكم في نفسه بخلاف
اثني عشر.
ألا ترى أنك إذا قلت - ضربت اثني عشر رجلا كان الضرب واقعا بالعشرة
والاثنين كما لو قلت ضربت اثنين وعشرة ولو قلت ضربت غلام زيد لكان الضرب
واقعا بالغلام دون زيد فلهذا قلنا أن العشر قام مقام النون وخالف المضاف
إليه فإن قيل فلم حذفت الواو من أحد عشر إلى تسعة عشر وجعل الاسمان اسما
واحدا قيل إنما فعلوا ذلك حملا على العشرة وما قبلها من الآحاد لقربها
منها لتكون على لفظ الأعداد المفردة وان كان الأصل هو العطف والذي يدل على
ذلك أنهم إذا بلغوا إلى العشرين ردوها إلى العطف لأنه الأصل وإنما ردوها
إذا بلغوا إلى العشرين لبعدها عن الآحاد فإن قيل فهلا اشتقوا من لفظ
الاثنين كما اشتقوا من لفظ الثلاثة والأربعة نحو الثلاثين والأربعين قيل
لأنهم لو اشتقوا من لفظ الاثنين لما كان يتم معناه إلا بزيادة واو ونون أو
ياء ونون فكان يؤدي إلى أن يكون له إعرابان وذلك لا يجوز فلم يبق من
الآحاد شيء يشتق منه إلا العشرة فاشتقوا من لفظها عددا عوضا عن اشتقاقهم
من لفظ الاثنين فقالوا عشرون.
فإن قيل فلم كسروا العين من
عشرين قيل لأنه لما كان الأصل أن يشتق من لفظ الاثنين وأول الاثنين مكسور
كسروا أول العشرين ليدلوا بالكسر على الأصل فإن قيل فلم وجب أن يكون ما
بعد أحد عشر إلى تسعة وتسعين واحدا نكرة منصوبة قيل إنما كان واحدا نكرة
لأن المقصود من ذكر النوع تبيين المعدود من أي نوع هو وهذا يحصل بالواحد
النكرة وكان الواحد النكرة أولى من الواحد المعرفة لأن الواحد النكرة أخف
من الواحد المعرفة ولا يلزم فيه ما يلزم في العدد الذي يضاف إلى ما بعده
لأنه ليس بمضاف فيتوهم أنه جزء مما يبينه كما يلزم في المضاف فلذلك وجب أن
يكون واحدا نكرة وإنما وجب أن يكون منصوبا لأن من أحد عشر إلى تسعة عشر
أصله التنوين وإنما حذف للبناء فكأنه موجود في اللفظ لأنه لم يقم مقامه
شيء يبطل حكمه فكان باقيا في الحكم فمنع من الإضافة وأما العشرون إلى
التسعين ففيه النون موجودة فمنعت من الاضافة وانتصب على التمييز على ما
بيناه في بابه. (1/99)
فإن قيل فلم إذا بلغت إلى المائة أضيفت إلى الواحد قيل لأن المائة حملت
على العشرة من وجه لأنها عقد مثلها وحملت على التسعين لأنها تليها فألزمت
الإضافة تشبيها بالعشرة وبينت بالواحد تشبيها بالتسعين فإن قيل فلم قالوا
ثلاثمائة ولم يقولوا ثلاث مئين قيل كان القياس أن يقال ثلاث مئين إلا أنهم
اكتفوا بلفظ المائة لأنها تدل على الجمع، وهم يكتفون بلفظ الواحد عن الجمع
قال الله تعالى ( ثم نخرجكم طفلا ) أي أطفالا وقال الشاعرا - من الوافر -
( كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص ) أي في بعض بطونكم
والشواهد على هذا النحو كثيرة فإن قيل فلم أجري الألف مجرى المائة في
الإضافة إلى الواحد قيل لأن الألف عقد كما أن المائة عقد فإن قيل فلم يجمع
الألف إذا دخل على الآحاد ولم يفرد مع الآحاد كالمائة قيل لأن الألف طرف
كما أن الواحد طرف لأن الواحد أول والألف آخر ثم تتكرر الأعداد فلذلك أجرى
مجرى ما يضاف إلى الآحاد فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
النداء***** (1/102)
إن قال قائل لم بنى المنادى المفرد المعرفة قيل لوجهين أحدهما أنه أشبه
كاف الخطاب وذلك من ثلاثة أوجه الخطاب والتعريف والإفراد لأن كل واحد
منغما يتصف بهذه الثلاثة فلما أشبه كاف الخطاب من هذه الأوجه بني كما أن
كاف الخطاب مبنية
والوجه الثاني أنه أشبه الأصوات لأنه صار غاية ينقطع عندها الصوت والأصوات
مبنية فكذلك ما أشبهها فإن قيل فلم بنى على حركة قيل لأن له حالة تمكن قبل
النداء فبنى على حركة تفضيلا له على ما بنى وليس له حالة تمكن فإن قيل فلم
كانت الحركة ضمة قيل لثلاثة أوجه الوجه الأول أنه لو بني على الفتح لالتبس
بما لا ينصرف ولو بني على الكسر لالتبس بالمضاف إلى النفس وإذا بطل بناؤه
على الفتح والكسر تعين بناؤه على الضم.
والوجه الثاني أنه بني على الضم فرقا بينه وبين المضاف لأنه إن كان المضاف
مضافا إلى النفس كان مكسورا وإن كان مضافا إلى غيرك ا كان منصوبا فبني على
الضم لئلا يلتبس بالمضاف لأن الضم لا يدخل المضاف.
والوجه الثالث أنه بني على الضم لأنه لما كان غاية يتم بها الكلام وينقطع
عندها أشبه قبل وبعد فبنوه على الضم كما بنوهما على الضم
فإن قيل فلم جاز في وصفه الرفع والنصب نحو يا زيد الظريف والظريف قيل جاز
الرفع حملا على اللفظ والنصب حملا على الموضع والاختيار عندي هو النصب لان
الأصل في وصف المبني هو الحمل على الموضع لا على اللفظ فإن قيل فلم جاز
الحمل ههنا على اللفظ وضمة زيد ضمة بناء وضمة الصفة ضمة إعراب قيل لأن
الضم لما اطرد في كل اسم منادى مفرد أشبه الرفع للفاعل لاطراده فيه فلما
أشبه الرفع جاز أن يتبعه الرفع ،غير أن هذا الشبه لم يخرجها عن كونها ضمة
بناء وأن الاسم مبني فلهذا كان الأقيس هو النصب ويجوز الرفع عندي على
تقدير مبتدأ محذوف والتقدير فيه أنت الظريف.
ويجوز النصب على تقدير فعل محذوف والتقدير فيه أعني الظريف ويؤيد الرفع
فيه بتقدير المبتدأ والنصب له بتقدير الفعل أن المنادى أشبه الأسماء
المضمرة والأسماء المضمرة لا توصف فإن قيل فلم جاز في المعطوف أيضا الرفع
والنصب نحو يا زيد والحارث والحارث قيل إنما جاز الرفع والنصب في العطف
لما بينا في الوصف من الحمل تارة على اللفظ وتارة على الموضع قال الله
تعالى ( يا جبال أوبي معه والطير ) و الطير بالرفع والنصب فمن قرأ بالرفع
حمله على اللفظ ومن قرأ بالنصب حمله على الموضع فإن قيل فلم كان المضاف
والنكرة منصوبين قيل لأن الأصل في كل منادى أن يكون منصوبا لأنه مفعول إلا
أنه عرض في المفرد المعرفة ما يوجب بناءه فبقي ما سواه على الأصل.
فإن قيل فما العامل فيه النصب قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب بعض
النحويين إلى أن العامل فيه النصب فعل مقدر والتقدير فيه أدعو زيدا أو
أنادي زيدا وذهب آخرون إلى أنه منصوب ب يا لأنها نابت عن أدعو أو أنادي
والذي يدل على ذلك أنه تجوز فيه الإمالة نحو يا زيد والإمالة لا تجوز في
الحروف إلا أنه لما قام مقام الفعل جازت فيه الإمالة فإن قيل أليس المضاف
والنكرة مخاطبين فهلا بنيا لوقوعهما موقع أسماء الخطاب كما بني المفرد قيل
لوجهين أحدهما أن المفرد وقع بنفسه موقع أسماء الخطاب وأما المضاف فيتعرف
بالمضاف إليه فلم يقع موقع أسماء الخطاب كالمفرد وأما النكرة فبعيدة الشبه
من أسماء الخطاب فلم يجز بناؤها والوجه الثاني أنا لو سلمنا أن المضاف
والنكرة وقعا موقع أسماء الخطاب إلا أنه لا يلزم بناؤهما لأنه عرض فيهما
ما منع من البناء أما المضاف فوجود المضاف إليه لأنه حل محل التنوين ووجود
التنوين يمنع من البناء فكذلك ما يقوم مقامه وأما النكرة فتنصب ليفصل
بينها وبين النكرة التي يقصد قصدها وكانت النكرة التي يقصد قصدها أولى
بالتغيير لأنها هي المخرجة عن بابها فكانت أولى بالتغيير.
فإن قيل فهل يجوز حذف حرف النداء قيل يجوز حذف حرف النداء إلا مع النكرة
والمبهم لأن الأصل فيهما النداء ب أي نحو يا أيهذا الرجل ويا أيها الرجل.
فلما اطرحوا أيا والألف واللام لم يطرحوا حرف النداء لئلا يؤدي ذلك إلى
الإجحاف بالاسم فإن قيل فهل يجوز في وصف أي ههنا ما جاز في وصف زيد نحو يا
زيد الظريف والظريف قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب جماهير النحويين إلى
أنه لا يجوز فيه إلا الرفع لأن الرجل ههنا هو المنادى في الحقيقة إلا أنهم
ادخلوا أيا ههنا توصلا إلى نداء ما فيه الألف واللام فلما كان هو المنادى
في الحقيقة لم يجز فيه إلا الرفع مع كونه صفة إيذانا بأنه المقصود بالنداء
وذهب أبو عثمان المازني إلى أنه يجوز فيه النصب نحو يا أيها الرجل كما
يجوز يا زيد الظريف وهو عندي القياس لو ساعده الاستعمال فإن قيل ولم لم
يجمعوا بين يا والألف واللام قيل لأن يا تفيد التعريف والألف واللام تفيد
التعريف فلم يجمعوا بين علامتي تعريف إذ لا يجتمع علامتا تعريف في كلمة
واحدة.
فإن قيل فقولهم يا زيد قد
تعرف بالنداء وبالعلمية؟ (1/103)
قيل في ذلك وجهان أحدهما أنا نقول أن تعريف العلمية زال منه وحدث فيه
تعريف النداء والقصد فلم يجتمع فيه تعريفان والثاني أنا نسلم أن تعريف
العلمية والنداء اجتمعا فيه ولكن جاز لأنا إنما منعنا من الجمع بين
التعريفين إذا كانا بعلامة لفظية ك يا مع الألف واللام والعلمية ليست
بعلامة لفظية فبان الفرق بينهما والأول أصح فإن قيل أليس قد قال الشاعر -
من الوافر -
( فديتك يا التي تيمت قلبي ... ) وقال الآخر - من الرجز - فيا الغلامان
اللذان فرا )
فكيف جاز الجمع بين يا والألف واللام؟ قيل أما قوله ( فديتك يا التي تيمت
قلبي ... وأنت بخيلة بالود عنى ) فإنما جمع بين يا والألف واللام لأن
الألف واللام في الاسم الموصول ليساا للتعريف لأنه إنما يتعرف بصلته لا
بالألف واللام فلما كانا فيه زائدين لغير التعريف جاز أن يجمع بين يا
وبينهما.
وأما قول الآخر فيا ا لغلامان اللذان فرا..... إياكما أن تكسباني شرا
فالتقدير فيه فيا أيها الغلامان فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه لضرورة
الشعر وما جاء للضرورة لا يورد نقضا فإن قيل فقد قالوا يا الله فجمعوا بين
يا والألف واللام قيل إنما جاز أن يجمعوا بينهما لوجهين:
أحدهما أن الألف واللام عوض عن حرف سقط من نفس الاسم فإن أصله إله فأسقطوا
الهمزة من أوله وجعلوا الألف واللام عوضا منها والذي يدل على ذلك أنهم
جوزوا قطع الهمزة ليدلوا على أنها قد صارت عوضا عن همزة القطع فلما كانت
عوضا عن همزة القطع وهي حرف من نفس الاسم لم يمتنع أن يجمعوا بينهما
والوجه الثاني أنه إنما جاز في هذا الاسم خاصة لأنه كثر في استعمالهم فخف
على ألسنتهم فجوزوا فيه ما لا يجوز في غيره فإن قيل فلم ألحقت الميم
المشددة في آخر هذا الاسم نحو اللهم قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب
البصريون إلى أنها عوض من يا التي للتنبيه والهاء مضمومة لأنه نداء ولهذا
لا يجوز أن يجمعوا بينهما فلا يقولون يا اللهم لئلا يجمعوا بين العوض
والمعوض وذهب الكوفيون إلى أنها ليست عوضا من يا وإنما الأصل فيه يا الله
أمنا بخير إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على ألسنتهم حذفوا بعض الكلام
تخفيفا كما قالوا أيش والأصل أي شيء وقالوا ويلمه والأصل ويل أمه وهذا
كثير في كلامهم فكذلك ههنا قالوا والذي يدل على أنها ليست عوضا عنها أنه
يجمعون بينهما قال الشاعر - من الرجز -( إني اذا ما حدث ألما ... أقول يا
اللهم يا اللهما ) وقال الآخر - من الرجز -( وما عليك أن تقولي كلما ...
صليت أو سبحت يا اللهم )
( ما اردد علينا شيخنا مسلما ... )
فجمع بين الميم و يا ولو كانت عوضا عنها لما جمع بينهما لأن العوض والمعوض
لا يجتمعان والصحيح ما ذهب إليه البصريون وأما قول الكوفيين أن اصله يا
الله أمنا بخير فهو فاسد لأنه لو كان الأمر على ما ذهبوا إليه لما جاز أن
يستعمل هذا اللفظ إلا في ما يؤدي إلى هذا المعنى ولا شك أنه يجوز أن يقال
اللهم العنه اللهم اخزه اللهم أهلكه وما أشبه ذلك قال الله تعالى ( وإذ
قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك
فأمطر علينا حجارة من السماء
أو ائتنا بعذاب أليم ) ولو كان الأمر على ما ذهبوا إليه لكان التقدير أمنا
بخير إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء او ائتنا
بعذاب أليم ولا شك أن هذا التقدير ظاهر الفساد إذ لا يكون أمهم بالخير أن
يمطر عليهم حجارة من السماء أو يؤتوا بعذاب اليم وقولهم أنه يجوز أن يجمع
بين الميم و يا بدليل ما أنشدوه فلا حجة فيه لأنه إنما جمع بينهما لضرورة
الشعر ولم يقع الكلام في حال الضرورة وإنما سهل الجمع بينهما للضرورة أن
العوض في آخر الكلمة - والمعوض في أولها - ثم الجمع بين العوض والمعوض
جائز في ضرورة الشعر كما قال الشاعر - من الطويل - (1/104)
( هما نفثا في في من فمويهما ... ) فجمع بين الميم والواو وهي عوض منها
فكذلك ههنا فاعرفه تصب ان شاء الله تعالى.
*****باب الترخيم***** (1/106)
إن قال قائل ما الترخيم قيل حذف آخر الاسم في النداء فإن قيل فلم خص
الترخيم في النداء قيل لكثرة دوره في الكلام فحذف طلبا - للتخفيف وهو باب
تغيير ألا ترى أنه عرض فيه حذف الإعراب والتنوين فلما كان باب تغيير
فالتغيير يؤنس بالتغير.
فإن قيل فهل يجوز ترخيم ما كان على ثلاثة احرف قيل اختلف النحويون في ذلك
فذهب البصريبرن إلى أنه لا يجوز ترخيمه وذلك لأن الترخيم إنما دخل الكلام
لاجل التخفيف وما كان على ثلاتة احرف فهو في غاية الخفة فلا يحتمل الحدف
لأن الحذف منه يؤدي إلى الاجحاف بب
وذهب الكوفيون الي أنه يجوز ترخيمه اذا كان اوسطه متحركا وذلك نحو قولك في
عنق يا عن وفي كتف يا كت وما اشبه ذلك وذلك لأن في الأسماء ما يماثله
ويضاهيه نحو يد وغد ودم والأصل في يد يدي وفي غد غدو وفي دم دمو بدليل
قولهم دموان وقيل دميان أيضا فنقصوها للتخفيف فبقيت يد وغد ودم فكذلك ههنا
وهذا فاسد من وجهين أحدهما أن الحذف في هذه الأسماء قليل في الاستعمال
بعيد عن القياس أما قلته في الاستعمال فظاهر لأنها كلمات يسيرة معدودة
وأما بعده عن القياس فلأن القياس يقتضي أن حرف العلة إذا تحرك وانفتح ما
قبله يقلب ألفا ولا يحذف فلما حذف ههنا من دمو دل على أنه على خلاف القياس
والوجه الثاني أنهم إنما حذفوا الياء والواو من يد وغد ودم لاستثقال
الحركات عليها لأن الأصل فيها يدي وغدو ودمو أما في باب
الترخيم فإنما وقع الحذف فيه على خلاف القياس لتخفيف الاسم الذي
كثرت حروفه ولم يوجد ههنا لأنه في غاية الخفة فلا حاجة بنا إلى تخفيفه
بالحذف.
فإن قيل فلم جاز ترخيم ما فيه علامة التأنيث نحو قولك في ثبة يا ثب وما
أشبه ذلك قيل لأن هاء التأنيث بمنزلة اسم ضم إلى اسم وليست من بناء الاسم
فجاز حذفها كما يحذف الاسم الثاني من الاسم المركب.
تقول في ترخيم حضرموت يا حضر وفي بعلبك يا بعل وما أشبه ذلك فإن قيل فهل
يجوز ترخيم المضاف قيل اختلف النحويون في ذلك:
فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ترخيمه لأن الترخيم إنما يكون فيما يؤثر
النداء فيه ب يا والمضاف لم يؤثر فيه النداء ب يا فكذلك لا يجوز ترخيمه
وذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترخيمه واحتجوا بقول زهير بن أبي سلمى - من
الطويل -
( خذوا حظكم يا آل عكرم واحفظوا ...أواصرنا والرحم بالغيب تذكر) أراد يا
آل عكرمة فحذف التاء للترخيم وهو عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان واحتجوا أيضا
بقول الشاعر - من الطويل
( أبا عرو لا تبعد فكل ابن حرة ... سيدعوه داعي ميتة فيجيب ) أراد أبا
عروة إلا أنه حذف التاء للترخيم.
واحتجوا أيضا بقول الآخر - من
الرجز - (1/107)
( أما تريني اليوم أم حمز ... قاربت بين عنقي وجمزي ) أراد أم حمزة فحذف
التاء للترخيم فدل ا على جوازه وما أنشدوه لا حجة فيه لأنه رخمه للضرورة
وترخيم المضاف يجوز في ضرورة الشعر كما يجوز الترخيم في غير النداء لضرورة
الشعر قال الشاعر - من الوافر -
( ألا أضحت حبالكم رماما ... وأضحت منك شاسعة أماما ) يريد أمامة وقال
الآخر - من البسيط -
( إن ابن حارث إن أشتق لرؤيته ... أو أمتدحه فإن الناس قد علموا )
يريد ابن حارثة وهذا كثير في كلامهم فإن قيل فهل يجوز ترخيم الاسم المفرد
الذي قبل آخره حرف ساكن بحذف آخره مع الحرف الساكن نحو ان تقول في سبطر يا
سب أو لا قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك
لأنه كما بقيت حركة الاسم المرخم بعد دخول الترخيم كما كانت قبل دخول
الترخيم فكذلك السكون لأنه موجود في الساكن حسب وجود الحركة في المتحرك
فكما بقيت الحركة في المتحرك فكذلك السكون في الساكن وذهب الكوفيون إلى أن
ترخيمه بحذف الأخير منه وحذف الحرف الساكن الذي قبله وذلك لأن الحرف إذا
سقط من هذا النحو بقي آخره ساكنا فلو قلنا أنه لا يحذف لأدى ذلك إلى أن
يشابه الأدوات وما أشبهها من الأسماء وذلك لا يجوز
وهذا ليس بصحيح لأنه لو كان هذا معتبرا لكان ينبغي أن يحذف الحرف المكسور
لئلا يؤدي ذلك إلى أن يشابه المضاف إلى المتكلم ولا قائل به فدل على فساد
ما ذهبوا إليه فإن قيل فلم جاز أن يبنى المرخم على الضم في أحد القولين
كما جاز أن يبقى على حركته وسكونه قيل لأنهم قدروا بقية الاسم المرخم
بمنزلة اسم لم يحذف منه شيء فبنوه على الضم نحو يا حار ويا مال كما لو لم
يحذف منه شيء فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
الندبة***** (1/109)
إن قال قائل ما الندبة قيل تفجع يلحق النادب عند فقد المندوب وأكثر ما
يلحق ذلك النساء لضعفهن عن تحمل المصائب فإن قيل فما علامة الندبة قيل وا
او يا في أوله وألف وهاء في آخره ا وإنما زيدت وا أو يا في أوله وألف في
آخره ليمد بها الصوت ليكون المندوب بين صوتين مديدين وزيدت الهاء بعد
الألف لأن الألف خفية والوقف عليها يزيدها خفاء فزيدت الهاء عليها في
الوقف لتظهر الألف بزيادتها بعدها في الوقف فإن قيل فلم وجب ألا يندب إلا
بأعرف أسمائه وأشهرها قيل ليكون ذلك عذرا للنادب عند السامعين لأنهم إذا
عذروه شاركوه في التفجع فإذا شاركوه في التفجع هانت عليه المصيبة.
فإن قيل فلم لحقت ألف الندبة آخر المضاف إليه نحو يا عبد الملكاه ولم تلحق
آخر الصفة نحو يا زيد الظريفاه قيل لأن ألف الندبة إنما تلحق ما يلحقه
تنبيه النداء والمضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد والدليل على ذلك أنه
لا يتم المضاف إلا بذكر المضاف إليه ولا بد مع ذ كر المضاف من ذكر المضاف
إليه ألا ترى أنك لو قلت في غلام زيد وثوب خز غلام وثوب لم يتم إلا بذكر
المضاف إليه فلما كان المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد جاز أن
تلحق ألف الندبة آخر المضاف إليه.
وأما الصفة فليست مع الموصوف بمنزلة شيء واحد ولهذا لا يلزم ذكر الصفة مع
الموصوف بل أنت مخير في ذكر الصفة ان شئت ذكرتها وان شئت لم تذكرها ألا
ترى أنك إذا قلت هذا زيد الظريف كنت مخيرا في ذكر الصفة ان شئت ذكرتها وان
شئت لم تذكرها فإذا كنت مخيرا في ذكر الصفة دل على أنهما ليسا بمنزلة شيء
واحد وإذا لم يكونا بمنزلة شيء واحد وجب ألا تلحق ألف الندبة الصفة بخلاف
المضاف إليه وقد ذهب الكوفيون ويونس بن حبيب البصري إلى جواز لحاقها الصفة
حملا على المضاف إليه وقد بينا الفرق بينهما.
ويحكون عن بعض العرب أنه قال واجمجمتى الشماميتيناه وهو شاذ لا يقاس عليه
فإن قيل فلم جاز ندبة المضاف إلى المخاطب نحو واغلامكاه ولم يجز نداؤه قيل
لأن المندوب لا ينادى ليجيب وإنما ينادى ليشهر النادب مصيبته وأنه قد وقع
في أمر عظيم وخطب جسيم ويظهر تفجعه كيف لا يكون في حالة من إذا دعي أجاب
وأما المنادى فهو مخاطب فلو جاز نداؤه لكان يؤدي إلى أن يجمع فيه بين
علامتي خطاب وذلك لا يجوز فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
لا***** (1/110)
إن قال قائل لم بنيت النكرة مع لا على الفتح نحو لا رجل في الدار قيل إنما
بنيت مع لا لأن التقدير في قولك لا رجل في الدار لا من رجل في الدار لأنه
جواب قائل قال هل من رجل في الدار فلما حذفت من من اللفظ وركبت مع لا
تضمنت معنى الحرف فوجب أن تبنى وإنما بنيت على حركة لأن لها حالة تمكن قبل
البناء وإنما كانت الحركة فتحة لأنها أخف الحركاتوذهب بعض النحويين إلى أن
هذه الحركة حركة إعراب لا حركة بناء لأن لا تعمل النصب بالإجماع لأنها
نقيضة إن لأن لا للنفي و إن للإثبات وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه
على نظيره ألا ترى أن لا لما كانت فرعا على أن في العمل و أن تنصب مع
التنوين نصبت لا بغير تنوين لينحط الفرع عن درجة الأصل إذ الفروع أبدا
تنحط عن درجات الأصول وهذا عندي فاسد لأنه لو كان معربا لوجب ألا يحذف منه
التنوين لأن التنوين ليس من عمل إن وإنما هو شيء يستحقه الاسم في أصله
وإذا لم يكن من عمل إن فلا معنى لحذفه مع لا لينحط الفرع عن درجة الأصل
لأن الفرع إنما ينحط عن درجة الأصل فيما كان من عمل الأصل فإذا لم يكن
التنوين من عمل الأصل وجب أن يكون ثابتا مع الفرع ثم انحطاطها عن درجة أن
قد ظهر في أربعة أشياء الأول أن إن تعمل في المعرفة والنكرة و لا لا تعمل
إلا في النكرة خاصة والثاني أن إن لا تركب مع اسمها لقوتها و لا تركب مع
اسمها لضعفها.
والثالث أن إن تعمل في اسمها مع الفصل بينها وبينه بالظرف وحرف الجر و لا
لا تعمل مع الفصل.
والرابع أن إن تعمل في الاسم والخبر عند البصريين و لا تعمل في الاسم دون
الخبر عند كثير من المحققين فانحطت درجة لا التي هي الفرع عن درجة إن التي
هي الأصل فإن قيل فلم إذا عطف على النكرة جاز فيه النصب على اللفظ كما جاز
فيه الرفع على الموضع والعطف على لفظ المبني لا يجوز قيل لأنه لما اطرد
البناء على الفتحة في كل نكرة ركبت مع لا أشبهت النصب للمفعول لاطراده فيه
فأشبهت حركة المعرب فجاز أن يعطف عليها بالنصب.
فإن قيل فلم جاز أن تبنى صفة النكرة معها على الفتح كما جاز أن تنصب حملا
على اللفظ وترفع حملا على الموضع قيل لأن بناء الاسم مع الاسم أكثر من
بناء الاسم مع الحرف فلما جاز أن يبنى الاسم مع الحرف جاز أيضا أن يبنى مع
الصفة لأن الصفة قد تكون مع الموصوف كالشيء الواحد بدليل أنه لا يجوز
السكوت على الموصوف دون الصفة في نحو قولك يا أيها الرجل ثم هما في المعنى
كشيء واحد فجاز أن يبنى كل واحد منهما مع صاحبه ولا يجوز ههنا أن تركب لا
مع النكرة إذا ركبت مع صفتها لأنه يؤدي إلى أن تجعل ثلاث كلمات بمنزلة
كلمة واحدة وهذا لا
نظير له في كلامهم. (1/111)
فإن قيل فلم جاز الرفع إذا كررت نحو لا رجل في الدار ولا امرأة قيل لأنك
إذا كررت كان جوابا لمن قال أرجل في الدار أم امرأة فتقول لا رجل في الدار
ولا امرأة ليكون الجواب على حسب السؤال فإن قيل لم بنيت لا مع النكرة دون
المعرفة قيل لأن النكرة تقع بعد من في الاستفهام ألا ترى أنك تقول هل من
رجل في الدار فإذا وقعت بعد من في السؤال جاز تقدير من في الجواب فإذا
حذفت من في الجواب تضمنت النكرة معنى الحرف فوجب أن تبنى وأما المعرفة فلا
تقع بعد من في الاستفهام ألا ترى أنك لا تقول هل من زيد في الدار فإذا لم
تقع بعد من في السؤال لم يجز تقدير من في الجواب وإذا لم يجز تقدير من في
الجواب لم تتضمن المعرفة معنى الحرف فوجب أن يبقى على أصله في الإعراب
فأما قول الشاعر:
( لا هيثم الليلة في المطي ... )
فإنما جاز لأن التقدير فيه لا مثل هيثم فصار في حكم النكرة فجاز أن يبنى
مع لا وعلى هذا قولهم قضية ولا أبا حسن لها أي ولا مثل أبي حسن ولولا هذا
التقدير لوجب الرفع مع التكرير نحو لا زيد عندي ولا عمرو فإن قيل فلم وجب
التكرير في المعرفة قيل لأنه جاء مبنيا على السؤال كأنه قيل أزيد عندك أم
عمرو فقال لا زيد عندي ولا عمرو
والدليل على أن السؤال في تقدير التكرير أن المفرد لا يفتقر إلى ذكره في
الجواب ألا ترى أنه إذا قيل أزيد عندك كان الجواب أن تقول لا من غير أن
تذكره كأنك قلت لا أصل لذلك فأما قولهم لا نولك أن تفعل كذا فإنما لم تكرر
لأنه صار بمنزلة لا ينبغي لك فأجروها مجراها حيث كانت في معناها كما أجروا
يذر في مجرى يدع لاتفاقهما في المعنى.
فإن قيل فلم لا تبنى لا مع
المضاف قيل إنما لم يجز أن تبنى مع المضاف لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة
شيء واحد فلو بنيا مع لا لكان يؤدي إلى أن تجعل ثلاث كلمات بمنزلة كلمة
واحدة وهذا لا نظير له في كلامهم والمشبه بالمضاف في امتناعه من التركيب
حكمه حكم المضاف (1/112)
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
حروف الجر***** (1/113)
إن قال قائل لم عملت هذه الحروف الجر قيل إنما عملت لأنها اختصت بالأسماء
والحرف متى كان مختصا وجب أن يكون عاملا وإنما وجب أن تعمل الجر لأن إعراب
الأسماء رفع ونصب وجر فلما سبق الابتداء إلى الرفع في المبتدأ والفعل إلى
الرفع أيضا في الفاعل وإلى النصب في المفعول لم يبق إلا الجر فلهذا وجب أن
تعمل الجر وأجود من هذا ان نقول إنما عملت الجر لأنها تقع وسطا بين الاسم
والفعل والجر يقع وسطا بين الرفع والنصب فأعطي الأوسط الأوسط ثم إن هذه
الحروف على ضربين أحدهما يلزم الجر فيه والثاني لا يلزم الجر فيه فأما ما
يلزم الجر فيه فـ من وإلى وفي واللام والباء ورب والواو والتاء في القسم
وحتى، ولها مواضع نذكرها فيها إن شاء الله تعالى وأما ما لا يلزم الجر فيه
فـ عن وعلى والكاف وحاشا وخلا ومذ ومنذ.
فأما عن فتكون اسما كما تكون حرفا:
فإذا كانت اسما دخل عليها حرف الجر وكانت بمعنى الناحية وما بعدها مجرور
بالإضافة كقول الشاعر - من الطويل -
( فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلها... يمينا ومهوى النجم من عن شمالك)
وكقول الآخر - من الكامل -
( فلقد أراني للرماح درية ... من عن يميني مرة وأمامي ) وكقول الآخر - من
الرجز -
( جرت عليه كل ريح سيهوج ... من عن يمين الخط أو سماهيج ) وكقول الآخر -
من البسيط:
( من عن يمين الحبيا نظرة قبل ... ) وإذا كانت حرفا كان ما بعدها مجرورا
بها كقولك رميت عن القوس وما أشبه ذلك، وأما على فتكون اسما وفعلا وحرفا
فإذا كانت اسما دخل عليها حرف الجر وكانت بمعنى فوق وما بعدها مجرور
بالإضافة كقول الشاعر ا - من الطويل -
( غدت من عليه بعدما تم ظمؤها ... تصل وعن قيض بزيزاء مجهل ... ) وكقول
الآخر - من الطويل -
( اتت من عليه تنفض الطل بعدما...رأت حاجب الشمس استوى فترفعا) وكقول
الآخر - من الرجز -
( فهي تنوش الحوض نوشا من على ... نوشا به تقطع أجواز الفلا )
وإذا كانت فعلا كانت مشتقة من مصدر وتدل على زمان مخصوص نحو علا الجبل
يعلو علوا فهو عال كقولك سلا يسلو سلوا فهو سال وما أشبه ذلك وإذا كانت
حرفا كان ما بعدها مجرورا بها نحو على زيد دين وما أشبه ذلك.
وأما الكاف فتكون اسما كما تكون حرفا فإذا كانت اسما قدروها تقدير مثل
وجاز أن يدخل عليها حرف الجر وكان ما بعدها مجرورا بالاضافة كقول الشاعر -
من الرجز -
( وصاليات ككما يؤثفين ... ) فالكاف الأولى حرف جر والثانية اسم لأنه لا
يجوز أن يدخل حرف جر على حرف جر وكقول الآخر - من الرجز:
( يضحكن عن كالبرد المنهم ... )
وتكون الكاف أيضا فاعلة كقول الشاعر - من البسيط -
( أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل )
فالكاف ههنا اسم لأنها فاعلة وهي في موضع رفع بإسناد الفعل إليها وإذا
كانت حرفا كان ما بعدها مجرورا بها نحو جاءني الذي كزيد وما أشبه ذلك وأما
حاشا و خلا فقد ذكرناهما في باب الاستثناء فيما قبل وأمامذ ومنذ فلهما باب
نذكرهما فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى ثم ان معاني هذه الحروف كلها
مختلفة فأما من فتكون على أربعة أوجه الوجه الأول أن تكون لابتداء الغاية
كقولك سرت من الكوفة إلى البصرة.
والوجه الثاني أن تكون للتبعيض كقولك أخذت من المال درهما والوجه الثالث
أن تكون لتبيين الجنس كقوله تعالى( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) من هذه
دخلت لتبيين المقصود بالاجتناب ولا يجوز أن تكون للتبعيض لأنه ليس المأمور
به اجتناب بعض الأوثان دون البعض وإنما المقصود اجتناب جنس الأوثان والوجه
الرابع أن تكون زائدة في النفي كقوله تعالى ( ما لكم من إله غيره )
والتقدير ما لكم إله غيره و من زائدة كقول الشاعر:
( وما بالربع من أحد ... ) - من البسيط - أي أحد وذهب بعض النحويين إلى
أنه يجوز أن تكون زائدة في الواجب ويستدل بقوله تعالى
(ويكفر عنكم من سيئاتكم ) أي
يكفر سيئاتكم و من زائدة وبقوله تعالى ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم )
أي يغضوا أبصارهم و من زائدة وما أستدل به لا حجة له فيه لأن من ليست
زائدة أما قوله تعالى: (1/114)
( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) فـ من فيه للتبعيض لا زائدة لأن من الذنوب ما
لا يكفر بإبداء الصدقات أو إخفائها وإيتائها للفقراء وهي مظالم العباد
وأما قوله تعالى ( يغضوا من أبصارهم ) فـ من فيه أيضا للتبعيض لأنهم إنما
أمروا أن يغضوا أبصارهم عما حرم عليهم لا عما احل لهم فدل على أنها
للتبعيض وليست زائدة.
وأما إلى فتكون على وجهين أحدهما أن تكون غاية كقولك سرت من الكوفة إلى
البصرة والثاني أن تكون بمعنى مع كقوله تعالى ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم
إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) أي مع المرافق ومع
الكعبين وأما في فمعناها الظرفية كقولك زيد في الدار وقد يتسع فيها فيقال
زيد ينظر في العلم وأما اللام فمعناها التخصيص والملك كقولك المال لزيد أي
يختص به ويملكه وأما الباء فمعناها الإلصاق كقولك كتبت بالقلم أي ألصقت
كتابتي به.
وأما رب فمعناها التقليل وهي تخالف حروف الجر من أربعة أوجه الوجه الأول
أنها تقع في صدر الكلام وحروف الجر لا تقع في صدر ا لكلام والوجه الثاني
أنها لا تعمل إلا في نكرة وحروف الجر تعمل في المعرفة و النكرة والوجه
الثالث أنها يلزم مجرورها الصفة وحروف الجر لا يلزم مجرورها الصفة والوجه
الرابع أنها يلزم معها حذف الفعل الذي أوصلته إلى ما بعدها وهذا لا يلزم
الحروف.
واختصاصها بهذه الأشياء لمعان اختصت بها فأما كونها في صدر الكلام فلأنها
لما كانت تدل على التقليل وتقليل الشيء يقارب نفيه أشبهت حروف النفي وحروف
النفي لها صدر الكلام وأما كونها لا تعمل إلا في النكرة فلأنها لما كانت
تدل على التقليل والنكرة تدل على التكثير وجب أن تختص بالنكرة التي تدل
على التكثير ليصح فيها التقليل.
وأما كونها تلزم الصفة مجرورها فجعلوا ذلك عوضا عن حذف الفعل الذي يتعلق
به وقد يظهر ذلك - الفعل - في ضرورة الشعر وأما حذف الفعل معها فللعلم به
ألا ترى أنك إذا قلت رب رجل يفهم كان التقدير فيه رب رجل يفهم أدركت أو
لقيت فحذف الفعل لدلالة الحال عليه كما حذف في قوله تعالى ( وأدخل يدك في
جيبك ) إلى قوله إلى فرعون وقومه ولم يذكر مرسلا لدلالة الحال عليه فكذلك
ههنا.
وأما عن فمعناها المجاوزة، وأما على فمعناها الاستعلاء، وأما الكاف
فمعناها التشبيه وقد تكون زائدة كقوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) وتقديره
ليس مثله شيء وكقول الشاعر - من الرجز -
( لواحق الأقراب فيها كالمقق ... ) وتقديره فيها المقق وهو الطول
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
حتى***** (1/116)
إن قال قائل على كم وجها تستعمل حتى قيل على ثلاثة أوجه الوجه الأول أن
تكون حرف جر ك إلى نحو قوله تعالى ( سلام هي حتى مطلع الفجر ) وما بعدها
مجرور بها في قول جماعة النحويين إلا في قول شاذ لا يعرج عليه وهو ما حكي
عن بعضهم أنه قال هو مجرور بتقدير إلى بعد حتى وهو قول ظاهر الفساد والوجه
الثاني أن تكون عاطفة حملا على الواو نحو جاءني القوم حتى زيد ورأيت القوم
حتى زيدا ومررت بالقوم حتى زيد.
فإن قيل فلم حملت على الواو قيل لأنها أشبهتها ووجه الشبه بينهما أن أصل
حتى أن تكون غاية وإذا كانت غاية كان ما بعدها داخلا في حكم ما قبلها ألا
ترى أنك إذا قلت جاءني القوم حتى زيد كان زيد داخلا في المجيء كما لو قلت
جاءني القوم وزيد فلما أشبهت الواو في هذا المعنى جاز أن تحمل عليها فإن
قيل فلم إذا كانت عاطفة وجب أن يكون ما بعدها من جنس ما قبلها ولا يجب ذلك
في الواو قيل لأنها لما كانت للغاية والدلالة على أحد طرفي الشيء فلا
يتصور أن يكون طرف الشيء من غيره فلو قلت جاء الرجال حتى النساء لجعلت
النساء غاية للرجال ومنقطعا لهم وذلك محال والوجه الثالث أن تكون حرف
ابتداء ك أما نحو ضرب القوم حتى زيد ضارب وذهبوا حتى عمرو ذاهب وقال
الشاعر - من الطويل -
( فما زالت القتلى تمج دماءها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل )
وقال الآخر - من الطويل - مطوت بهم حتى تكل غزارتهم ... وحتى الجياد يقدن
بأرسان ) فإن قيل فهل يكون للجملة بعدها موضع من الإعراب أو لا قيل لا
يكون للجملة بعدها موضع من الإعراب لأن الجملة إنما يحكم لها بموضع من
الإعراب إذا وقعت موقع المفرد نحو أن تقع وصفا نحو مررت برجل يكتب أو حالا
نحو جاءني زيد يضحك أو خبر مبتدأ نحو زيد يذهب وإذا لم تقع ههنا موقع
المفرد فينبغي ألا يحكم لها بموضع من الإعراب فهذه الثلاثة الأوجه التي في
حتى وقد تجتمع كلها في مسالة واحدة نحو قولهم أكلت السمكة حتى رأسها وحتى
رأسها وحتى رأسها بالجر والرفع والنصب.
فالجر على أن تجعل حتى حرف جر
والنصب على أن تجعلها حرف عطف فتعطفه على السمكة والرفع على أن تجعلها حرف
ابتداء فيكون مرفوعا بالابتداء وخبره محذوف وتقديره حتى رأسها مأكول وإنما
حذف الخبر لدلالة الحال عليه وعلى هذه الأوجه ينشد قول الشاعر - من الكامل
- (1/117)
( ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله القاها ) بالجر والنصب
والرفع فالجر ب حتى والنصب على العطف والرفع على الابتداء و ألقاها الخبر
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
مذ و منذ***** (1/118)
إن قال قائل لم قلتم أن الأغلب على مذ الاسمية وعلى منذ الحرفية وكل واحد
منهما يكون اسما وحرفا جارا قيل إنما قلنا أن الأغلب على مذ الاسمية لأنها
دخلها الحذف والأصل فيها منذ فحذفت النون منها والحذف إنما يكون في
الأسماء والدليل على أن الأصل في مذ منذ أنك لو صغرتها أو كسرتها لرددت
النون فيها فقلت في تصغيرها منير وفي تكسيرها أمناذ لأن التصغير والتكسير
يردان الأشياء إلى أصولها فدل على أن الأصل في مذ منذ.
فإن قيل فلم إذا كانا اسمين كان الاسم بعدهما مرفوعا نحو قولك ما رأيته مذ
يومان ومنذ ليلتان قيل إنما كان الاسم بعدهما مرفوعا إذا كانا اسمين لأنه
خبر المبتدأ لأن مذ ومنذ هما المبتدأ وما بعدهما هو الخبر.
والتقدير في قولك ما رأيته مذ يومان ومنذ ليلتان ا أمد ذلك يومان وأمد ذلك
ليلتان م فإن قيل لم بنيت مذ ومنذ قيل لأنهما اذا كانا حرفين بنيا لأن
الحروف كلها مبنية وإذا كانا اسمين بنيا لتضمنهما معنى الحرف لأنك إذا قلت
ما رايته مذ يومان ومند ليلتان كان المعني فيه ما رايته من أول اليومين
إلى آخرهما ومن أول الليلتين إلى آخرهما فلما تضمنا معنى الحرف وجب أن
يبنيا وبنيا مذ على السكون لأن الأصل في البناء أن يكون على السكون فبنيت
على الأصل وبنيت منذ على الضم لأنه لما وجب تحريك الدال لالتقاء الساكنين
بنيت على الضم اتباعا لضمة الميم كما قالوا في منتن منتن فضموا التاء
اتباعا لضمة الميم ومنهم من يقول منتن فيكسر الميم اتباعا لكسرة التاء
ونظير هذين الوجهين في قراءة من قرأ الحمد لله فكسر اللام اتباعا لضمة
الدال وقراءة من قرأ الحمد لله فكسر الدال اتباعا لكسرة اللام ،فلهذا كانت
مذ ومنذ مبنيتين وهما يختصان بابتداء الغاية في الزمان كما أن من تختص
بابتداء الغاية في المكان، و ذهب الكوفيون إلى أن من تستعمل في الزمان كما
تستعمل في المكان واستدلوا على جواز ذلك بقوله تعالى ( لمسجد أسس على
التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ) ا فأدخل من على أول يوم وهو ظرف زمان
ويستدلون أيضا بقول زهير - من الكامل -
( لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر )
وما استدلوا به لا حجة لهم فيه أما قوله تعالى ( من أول يوم أحق أن تقوم
به ) فالتقدير فيه من تأسيس أول يوم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
كقوله تعالى ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها )
والتقدير فيه أهل القرية وأهل العير وهذا كثير في كلامهم وأما قول زهير من
حجج ومن دهر فالرواية مذ حجج ومذ دهر.
وإن صح ما رووه فالتقدير فيه من مر حجج ومن مر دهر كما يقال مرت عليه
السنون ومرت عليه الدهور فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه على ما بينا
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
القسم***** (1/119)
إن قال قائل لم حذف فعل القسم قيل إنما حذف فعل القسم لكثرة الاستعمال فإن
قيل فلم قلتم أن الأصل في حروف القسم الباء دون الواو والتاء قيل لأن فعل
القسم المحذوف فعل لازم ألا ترى أن التقدير في قولك بالله لأفعلن أقسم
بالله أو أحلف بالله والحرف المعدي من ملي هذه الأحرف هو الباء لأنه الحرف
الذي يقتضيه الفعل
وإنما كان الباء دون غيره من الحروف المعدية لأن الباء معناها الإلصاق
فكانت أولى من غيرها ليتصل فعل القسم بالمقسم به مع تعديته والذي يدل على
أنها هي الأصل أنها تدخل على المظهر والمضمر والواو تدخل على المظهر دون
المضمر والتاء تختص باسم الله تعالى دون غيره فلما دخلت الباء على المظهر
والمضمر واختصت الواو بالمظهر والتاء باسم الله تعالى دل على أن الباء هي
الأصل فإن قيل فلم جعلوا الواو دون غيرها بدلا من الباء قيل لوجهين:
أحدهما أن الواو تقتضي الجمع كما أن الباء تقتضي الإلصاق فلما تقاربا في
المعنى أقيمت مقامها.
والثاني أن الواو مخرجها من الشفتين كما أن الباء مخرجها من الشفتين فلما
تقاربا في المخرج كانت أولى
من غيرها فإن قيل فلم اختصت الواو بالمظهر دون المضمر قيل لأنها لما كانت
فرعا على الباء والباء تدخل على المظهر والمضمر انحطت عن درجة الباء التي
هي الأصل فاختصت بالمظهر دون المضمر لأن الفروع أبدا تنحط عن درجة الأصول (1/120)
فإن قيل فلم جعلوا التاء دون غيرها بدلا من الواو قيل لأن التاء تبدل من
الواو كثيرا نحو قولهم تراث وتجاه وتخمة وتهمة وتيقور والأصل فيه وراث
ووجاه ووخمة ووهمة وويقور لأنه مأخوذ من الوقار إلا أنهم أبدلوا التاء من
الواو فكذلك ههنا.
فإن قيل فلم اختصت التاء باسم واحد وهو اسم الله تعالى قيل لأنها لما كانت
فرعا للواو التي هي فرع الباء والواو تدخل على المظهر دون المضمر لأنها
فرع انحطت عن درجة الواو لأنها فرع الفرع فاختصت باسم واحد وهو اسم الله
تعالى فإن قيل فلم جعل جواب القسم باللام وأن وما ولا قيل لأن القسم
وجوابه لما كانا جملتين والجمل تقوم بنفسها وإنما تتعلق إحدى الجملتين
بالأخرى برابطة بينه وبين جوابه وجوابه لا يخلو إما أن يكون موجبا أو
منفيا جعلوا الرابطة بينهما بأربعة أحرف حرفين للإيجاب وهما اللام وأن
وحرفين للنفي وهما ما و لا.
فإن قيل فلم جاز حذف لا نحو قوله تعالى( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف ) قيل
لدلالة الحال عليه لأنه لو كان إيجابا لم يخل من إن أو اللام فلما خلا
منهما دل على أنه نفي فلهذا جاز حذفها فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
الإضافة***** (1/121)
إن قال قائل على كم ضربا الإضافة قيل على ضربين إضافة بمعنى اللام نحو
غلام زيد أي غلام لزيد وإضافة بمعنى من نحو ثوب خز أي ثوب من خز فإن قيل
في فلم حذف التنوين من المضاف وجر المضاف إليه قيل أما حذف التنوين فلأنه
يدل على الانفصال والإضافة تدل على الاتصال فلم يجمعوا بينهما ألا ترى أن
التنوين يؤذن بانقطاع الاسم وتمامه والإضافة تدل على الاتصال وكون الشيء
متصلا منفصلا في حالة واحدة محال وأما جر المضاف إليه فلأن الإضافة لما
كانت على ضربين بمعنى اللام وبمعنى من وحذف حرف الجر قام المضاف مقامه
فعمل في المضاف إليه الجر كما يعمل حرف الجر.
فإن قيل وجه زيد ويد عمرو هل هذه الإضافة بمعني اللام أو بمعنى من قيل لا
بل بمعنى اللام لأن الإضافة التي بمعنى من يجوز أن يكون الثاني وصفا للأول
ألا ترى أنه يجوز أن تقول في نحو قولك ثوب خز ثوب خز فترفع خزا لأنه وصف
لثوب وكذلك ما أشبهه وأما الإضافة بمعنى اللام فلا يجوز أن يكون الثاني
وصفا للأول ألا ترى أنك لا تقول في غلام زيد غلام زيد فلا يجوز أن تجعل
زيدا صفة لغلام كما جاز أن تجعل خزا صفة لثوب فلما وجدنا قولهم وجه زيد لا
يجوز أن يكون الثاني وصفا للأول علمنا أنها بمعنى اللام لا بمعنى من.
فإن قيل فلم كانت إضافة اسم الفاعل إذا أريد به الحال أو الاستقبال وإضافة
الصفة المشبهة باسم الفاعل وإضافة افعل إلى ما هو بعض له وإضافة الاسم إلى
الصفة غير محضة في هذه المواضع كلها قيل أما اسم الفاعل فإنما كانت إضافته
غير محضة لأن الأصل في قولك مررت برجل ضارب زيد غدا ضارب زيدا بتنوين ضارب
فلما كان التنوين ههنا مقدرا
كانت الإضافة في تقدير الانفصال ولهذا جرى وصفا للنكرة وأما الصفة المشبهة
باسم الفاعل فإنما كانت إضافتها غير محضة لأن التقدير في قولك مررت برجل
حسن الوجه مررت برجل حسن وجهه فلما كان التنوين أيضا ههنا مقدرا كانت
إضافته أيضا غير محضة.
وأما أفعل الذي يضاف إلى ما هو بعض له فإنما كانت إضافته غير محضة لأن
التقدير في قولك زيد أفضل القوم زيد أفضل من القوم فلما كانت من ههنا
مقدرة كانت إضافته غير محضة وأما إضافة الاسم إلى الصفة فإنما كانت غير
محضة لأن التقدير في قولك صلاة الأولى صلاة الساعة الأولى فلما كان
الموصوف ههنا مقدرا كانت الإضافة غير محضة وإذا كانت غير محضة لم تفد
التعريف بخلاف ما إذا كانت محضة نحو غلام زيد ومما لم يتعرف بالإضافة لأن
إضافته غير محضة قولهم مررت برجل مثلك وشبهك وما أشبه ذلك وإنما لم يتعرف
بالإضافة لأنها لا تخص شيئا بعينه ولهذا وقعت صفة للنكرة فاعرفه تصب إن
شاء الله تعالى.
*****باب
التوكيد***** (1/122)
إن قال قائل ما الفائدة في التوكيد قيل الفائدة في التوكيد التحقيق وإزالة
التجوز في الكلام لأن من كلامهم المجاز ألا ترى أنهم يقولون مررت بزيد وهم
يريدون المرور بمنزله ومحله وجاءني القوم وهم يريدون بعضهم قال الله تعالى
( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ) فقال الملائكة وإنما كان
جبريل وحده فإذا قلت مررت بزيد نفسه زال هذا المجاز وكذلك إذا قلت جاءني
القوم كلهم زال هذا المجاز أيضا قال الله تعالى ( فسجد الملائكة كلهم )
فزال هذا المجاز الذي كان في قوله فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في
المحراب لوجود التوكيد فإن قيل فعلى كم ضربا التوكيد قيل على ضربين توكيد
بتكرير اللفظ وتوكيد بتكرير المعني فأما التوكيد بتكرير اللفظ فنحو قولك
جاءني زيد زيد وجاءني رجل رجل وما أشبه ذلك وأما التوكيد بتكرير المعنى
فيكون بتسعة ألفاظ وهي نفسه وعينه وكله وأجمع وأجمعون و جمعاء وجمع وكلا
وكلتا.
فإن قيل فلم وجب تقديم نفسه وعينه على كلهم وأجمعين قيل لأن النفس والعين
يدلان على حقيقة الشيء وكلهم وأجمعون يدلان على الإحاطة والعموم والإحاطة
لا بد أن تقتضي محاطا به فكان فيهما معنى التبع والنفس والعين ليس فيهما
معنى التبع فكان تقديمهما أولى
وقدم كلهم على أجمعين لأن معنى الإحاطة في أجمعين أظهر منها في كلهم لأن
أجمعين مشتقة من الاجتماع و كل لا اشتقاق له
وأما بعد أجمعين فتبع لأجمعين وإنما كان كذلك لأنهم كرهوا إعادة لفظ
أجمعين فزادوا ألفاظا بعد أجمعين تبعا له لأنه لا معنى لها سوى التبع
فلهذا وجب أن تكون بعد أجمعين فإن قيل أجمع وجمعاء وجمع معارف أو نكرات
قيل لا بل معارف والذي يدل على ذلك أنها تكون تأكيدا للمعارف نحو جاء
الجيش أجمع ورأيت القبيلة جمعاء ومررت بهن جمع فلما كانت تأكيدا للمعارف
دل على أنها معارف فإن قيل فلم كانت غير منصرفة قيل أما أجمع فللتعريف
ووزن الفعل وأما جمعاء فلألف التأنيث نحو صحراء
وأما جمع فللتعريف والعدل عن جماعي بوزن صحارى وقيل للتعريف
والعدل عن جمع جمعاء وقياسه
جمع كحمر فعدل وحرك فاجتمع فيه العدل والتعريف فلذلك لم ينصرف ا والذي
عليه الأكثرون هو الأول (1/123)
وأما كلا وكلتا ففيهما إفراد لفظي وتثنية معنوية والذي يدل على ذلك أنهما
تارة يرد الضمير إليهما بالإفراد اعتبارا باللفظ وتارة بالثنية اعتبارا
بالمعنى قال الله تعالى كلتا الجنتين آتت أكلها فرد إلى اللفظ فأفرد وقال
الشاعر - من الطويل -
( كلا أخوينا ذو رجال كأنهم ... أسود الشري من كل أغلب ضيغم )
وقال الآخر - من البسط -
( كلاهما حين جد الجري بينهما ... قذ أقلعا وكلا أنفيهما رابي )
فرد إلى اللفظ والمعنى فقال قد أقلعا اعتبارا بالمعنى وقال رابي ولم يقل
رابيان اعتبارا باللفظ والذي يدل على أن الألف فيهما ليست للتثنية أنها لو
كانت للتثنية لانقلبت في النصب والجر إذا أضيفتا إلى المظهر لأن الأصل هو
المظهر تقول رأيت كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين ورأيت كلتا المرأتين
ومررت بكلتا المرأتين ولو كانت للتثنية لوجب أن تنقلب مع المظهر فلما لم
تنقلب دل على أنها الألف المقصورة وليست للتثنية
وذهب الكوفيون إلى أنه مثنى وأن الألف فيهما للتثنية واستدلوا على ذلك
بقول الشاعر - من الرجز -
( في كلت رجليهما سلامى واحدة ... كلتاهما مقرونة بزائده ) فأفرد في قوله
كلت فدل على أن كلتا مثنى واستدلوا على ذلك أيضا بأن الألف فيهما تنقلب
إلى الياء في حالة النصب والجر إذا أضيفتا إلى المضمر تقول رأيت الرجلين
كليهما ومررت بالرجلين كليهما وكذلك تقول رايت المرأتين كلتيهما ومررت
بالمرأتين كلتيهما ولو كانت الألف المقصورة لم تنقلب كما لم تنقلب ألف عصا.
وما ذهب إليه الكوفيون ليس بصحيح، فأما استدلالهم بقول الشاعر
( في كلت رجليهما سلامى واحدة
... ) فلا حجة فيه لأنه يحتمل أنه حذف الألف لضرورة الشعر وأما قولهم أنها
تنقلب في حال النصب والجر إذا أضيفت إلى المضمر قلنا إنما قلبت مع المضمر
لأنها أشبهت إلى وعلى ولدى فلما أشبهتها قلبت ألفها مع المضمر ياء كما
قلبت ألف إلى وعلى ولدى مع المضمر في إليك وعليك ولديك ووجه المشابهة
بينها وبين هذه الكلم أن هذه الكلم يلزم دخولها على الاسم ولا تقع إلا
مضافة كما أن هذه الكلمة يلزم دخولها على الاسم وإنما قلبت في حالة الجر
والنصب دون الرفع لأن هذه الكلم لها حال النصب والجر وليس لها حال الرفع
فإن قيل فهل يجوز توكيد النكرة قيل ان كان التوكيد بتكرير اللفظ جاز توكيد
النكرة كما يجوز توكيد المعرفة نحو جاءني رجل رجل وان كان التوكيد بتكرير
المعنى فقد اختلف النحويون فيه فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز وذلك لأن كل
واحد من هذه الألفاظ التي يؤكد بها معرفة فلا يجوز أن يجري على النكرة
تأكيدا كما لا يجوز أن يجري عليها وصفا
(1/124)
وذهب الكوفيون إلى أنه يجوز
واستدلوا على جوازه بقول الشاعر - من البسيط - (1/125)
( لكنه شاقه أن قيل ذا رجب ... يا ليت عدة حول كله رجب ) فجر كل على
التوكيد لحول وهو نكرة واستدلوا أيضا بقول الشاعر - من الرجز -
( إذا القعود كر فيها حفدا ... يوما جديدا كله مطردا )
فأكد يوما وهو نكرة بـ كله واستدلوا أيضا بقول الآخر
( قد صرت البكرة يوما اجمعا ... ) - من الرجز - وما استدلوا به من هذه
الأبيات لا حجة فيه أما قول الشاعر يا ليت عدة حول كله رجب - من البسبط -
فالرواية يا ليت عدة حولي كله رجب بالإضافة وهو معرفة لا نكرة ورجب منصوب،
فإن القصيدة منصوبة كما قال الآخر - من الرجز -
( يا ليت أيام الصبا رواجعا ... وأما قول الآخر - من الرجز -
( يوما جديدا كله مطردا ... ) فيحتمل أن يكون تأكيدا للمضمر في جديد
والمضمرات لا تكون إلا معارف فكان هذا أولى لأنه اقرب إليه من اليوم فعلى
هذا يكون الإنشاد بالرفع وأما قول الآخر - من الرجز -
( قد صرت البكرة يوما أجمعا ... ) فلا يعرف قائله فلا تكون فيه حجة ثم لو
صحت هذه الأبيات على ما رووا فلا يجوز الاحتجاج بها لقلتها وشذوذها في
بابها والشاذ لا يحتج به فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
الوصف***** (1/126)
إن قال قائل ما الغرض في الوصف قيل التخصيص والتفضيل فإن كان معرفة كان
الغرض من الوصف التخصيص لأن الاشتراك يقع فيها ألا ترى أن المسمين بزيد
ونحوه كثير فإذا قال جاءني زيد لم يعلم أيهم يريد فإذا قال زيد العاقل أو
العالم أو الأديب أو ما أشبه ذلك فقد خصه من غيره وإن كان الاسم نكرة كان
الغرض من الوصف التفضيل ألا ترى أنك إذا قلت جاءني رجل لم يعلم أي رجل هو
فإذا قلت رجل عاقل فقد فضلته عمن ليس له هذا الوصف ولم تخصة لأنا نعني
بالتخصيص شيئا بعينه وههنا قد جعلته من امة كل واحد منهم له هذا الوصف فإن
قيل ففي كم تتبع الصفة الموصوف قيل في عشرة أشياء التعريف والتنكير
والتأنيث و التذكير والإفراد والتثنية والجمع والرفع والنصب والجر
فإن قيل فلم لم توصف المعرفة بالنكرة والنكرة بالمعرفة وكذلك سائرها قيل
لأن المعرفة ما خص الواحد من جنسه والنكرة ما كان شائعا في
جنسه والصفة في المعنى هي الموصوف ويستحيل أن يكون الشيء الواحد شائعا
مخصوصا وإذا استحال هذا في وصف المعرفة بالنكرة والنكرة بالمعرفة كان في
وصف الواحد بالاثنين ووصف الاثنين بالجمع أشد استحالة وكذلك سائرها فإن
قيل فما العامل في الصفة قيل العامل في الموصوف.
فإذا قلت جاءني زيد الظريف كان العامل فيه جاءني وإذا قلت رأيت زيدا
الظريف كان العامل فيه رأيت ، وإذا قلت مررت بزيد الظريف كان العامل فيه
الباء هذا مذهب سيبويه
وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن كونه صفة لمرفوع أوجب له الرفع وإلى أن كونه
صفة لمنصوب أوجب له النصب وإلى أن كونه صفة لمجرور أوجب له الجر، والذي
عليه الأكثرون هو الأول وهو مذهب سيبويه فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
عطف البيان***** (1/127)
إن قال قائل ما الغرض في عطف البيان قيل الغرض فيه رفع اللبس كما في الوصف
ولهذا يجب أن يكون أحد الاسمين يزيد على الآخر في كون الشخص معروفا به
ليخصه من غيره لأنه لا يكون إلا بعد اسم مشترك ألا ترى أنك إذا قلت مررت
بولدك زيد فقد خصصت ولدا واحدا من أولاده فإن لم يكن له إلا ولد واحد كان
بدلا ولم يكن عطف بيان لعدم الاشتراك وعطف البيان يشبه البدل من وجه ويشبه
الوصف من وجه فوجه شبهه للبدل أنه اسم جامد كما أن البدل يكون اسما جامدا
ووجه شبهه للوصف أن العامل فيه هو العامل في الاسم الأول والدليل على ذلك
أنك تحمله تارة على اللفظ وتارة على الموضع فتقول يا زيد زيد زيدا فالرفع
على اللفظ والنصب على الموضع قال الشاعر - من الرجز -
( أني وأسطار سطرن سطرا ... لقائل يا نصر نصر نصرا ) ويجوز أن يكون نصر
الثالث منصوبا على المصدر كأنه قال أنصر نصرا وهذا باب يترجمه البصريون
ولا يترجمه الكوفيون فاعرفه تصب أن شاء الله تعالى.
*****باب
البدل***** (1/128)
إن قال قائل : ما الغرض في البدل قيل : الإيضاح ورفع الالتباس وإزالة
التوسع والمجاز؛ فإن قيل : فعلى كم ضربا البدل قيل : على أربعة أضرب:
بدل الكل من الكل وبدل البعض من الكل وبدل الاشتمال وبدل الغلط، فأما بدل
الكل من الكل فكقولك : جاءني أخوك زيد ورأيت أخاك زيدا ومررت بأخيك زيد
قال الله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم )
وبدل البعض من الكل كقولك : جاءني بنو فلان ناس منهم ولا بد أن يكون فيه
ضمير يعلقه بالمبدل منه قال الله تعالى : ( وارزق أهله من الثمرات من آمن
منهم بالله واليوم الآخر ) فأما قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت
من استطاع إليه سبيلا ) ف من استطاع بدل من الناس وتقديره : من استطاع
سبيلا منهم فحذف الضمير للعلم به.
وأما بدل الاشتمال فنحو قولك : سلب زيد ثوبه ويعجبني عمرو عقله
ولا بد أيضا فيه من ضمير يعلقه بالمبدل منه قال الله تعالى:
( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) فقوله قتال فيه بدل من الشهر
والضمير فيه عائد إلى الشهر فأما قول الشاعر : - من الطويل -
( لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم ) فالتقدير فيه :
ثواء ثويته فيه فحذف للعلم به.
فأما بدل الغلط فلا يكون في قرآن ولا كلام فصيح وهو أن يريد أن يلفظ بشيء
فيسبق لسانه إلى غيره فيقول : لقيت زيدا عمرا فعمرو هو المقصود وزيد وقع
في لسانه غلط به فأتى بالذي قصده وأبدله من المغلوط به والأجود في مثل هذا
أن يستعمل بل فيقول : بل عمرا فإن قيل : فما العامل في البدل قيل : اختلف
النحويون في ذلك فذهب جماعة من النحويين إلى أن العامل في البدل غير
العامل في المبدل وهما جملتان ويحكى عن أبي علي الفارسي رحمه الله أنه قيل
له : كيف يكون البدل إيضاحا للمبدل وهو من غير جملته فقال لما لم يظهر
العامل في البدل وإنما دل عليه العامل في المبدل واتصل البدل بالمبدل في
اللفظ جاز أن يوضحه والذي يدل على أن العامل في البدل غير العامل في
المبدل قوله تعالى ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر
بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ) فظهور اللام في بيوتهم وهي بدل من من يدل
على أن العامل في البدل غير العامل في المبدل.
ونحوه قوله تعالى ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن
آمن منهم ) فظهور اللام مع من وهو بدل من الذين استضعفوا يدل على أن
العامل في البدل غير العامل في المبدل.
وذهب قوم إلى أن العامل في البدل هو العامل في المبدل كما أن العامل في
الصفة هو العامل في الموصوف والأكثرون على الأول فاعرفه تصب إن شاء الله
تعالى.
*****باب
العطف***** (1/129)
إن قال قائل : كم حروف العطف قيل : تسعة : الوو والفاء وثم وأو ولا وبل
ولكن وأم وحتى فإن قيل : لم كان أصل حروف العطف الواو قيل لأن الواو لا
تدل على أكثر من الاشتراك فقط وأما غيرها من الحروف فيدل على الاشتراك
وعلى معنى زائد على ما سنبين فإذا كانت هذه الحروف تدل على زيادة معنى ليس
في الواو صارت الواو بمنزلة الشيء المفرد وباقي الحروف بمنزلة المركب
والمفرد أصل للمركب.
فإن قيل فما الدليل على أن الواو تقتضي الجمع دون الترتيب قيل الدليل على
ذلك قوله تعالى ( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) وقال في موضع آخر (
وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا ) فلو كانت الواو تقتضي الترتيب لما جاز أن
يتقدم افي إحدى الآيتين ما يتأخر في الأخرى وقال لبيد:
( أغلي السباء بكل أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفض ختامها )
وتقديره فض ختامها وقدحت لأنه يريد بالجونة ههنا القدر و قدحت أي غرفت
والمغرفة يقال لها المقدحة و فض ختامها أي كشف غطاؤها والغرف إنما يكون
بعد الكشف هكذا ذكره الثمانيني والأظهر أنه أراد بالجونة الخابية وقد
ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب شرح السبع الطوال والذي يدل أيضا على أنها
للجمع دون الترتيب قولهم المال بين زيد وعمرو كما تقول بينهما وتقول اختصم
زيد وعمرو
ولو كانت الواو تفيد الترتيب لما جاز أن تقع ههنا لأن هذا الفعل لا يقع
إلا من اثنين ولا يجوز الاقتصار على أحدهما فدل على أنها تفيد الجمع دون
الترتيب
فأما الفاء فإنها تفيد الترتيب والتعقيب،
وثم تفيد الترتيب والتراخي و أو تفيد الشك والتخيير والإباحة و لا تفيد
النفي و بل تفيد الانتقال من صيغة إلى صيغة أخرى،
ولكن تفيد الاستدراك وإنما تعطف في النفي دون الإثبات بخلاف بل فإنها تعطف
في النفي والإثبات معا فإن قيل فلم جاز أن تستعمل بل بعد النفي ك لكن ولم
يجز أن تستعمل لكن بعد الإثبات ك بل قيل لأن بل إنما تستعمل في الإيجاب
لأجل الغلط والنسيان لما قبلها وهذا إنما يقع في الكلام نادرا فاقتصروا
على حرف واحد.
وأما استعمال لكن فإنما يكون بعد النفي فجاز أن تشرك معها فيه لأن
الكلامين صواب ولا ينكر تكرار ما يقتضي الصواب فلذلك افترق الحكم فيهما.
وأما أم فتكون على ضربين متصلة ومنقطعة فأما المتصلة فتكون بمعنى أي نحو
أزيد عندك أم عمرو أي أيهما عندك وأما المنقطعة فتكون بمنزلة بل والهمزة
كقولهم أنها لإبل أم شاء والتقدير فيه بل أهي شاء كأنه رأي أشخاصا فغلب
على ظنه أنها إبل فأخبر بحسب ما غلب على ظنه ثم أدركه الشك فرجع إلى
السؤال والاستثبات فكأنه قال بل أهي شاء ولا يجوز أن تقدر بل وحدها والذي
يدل عليه قوله تعالى ( أم له البنات ولكم البنون ) ولو كان بمعنى بل وحدها
لكان التقدير بل له البنات ولكم البنون وهذا كفر فدل على أنها بمنزلة بل
والهمزة.
فأما إما فليست حرف عطف
ومعناها كمعنى أو إلا أنها أقعد في باب الشك من أو لأن أو يمضي صدر الكلام
معها على اليقين ثم يطرأ الشك فيسري الشك من آخر الكلام إلى أوله وأما إما
فيبنى الكلام معها من أوله على الشك، وإنما قلنا أنها ليست حرف عطف لأن
حرف العطف لا يخلو إما أن يعطف مفردا على مفرد أو جملة على جملة فإذا قلت
قام إما زيد و إما عمرو لم تعطف مفردا على مفرد ولا جملة على جملة ثم لو
كانت حرف عطف لما جاز أن تتقدم على الاسم لأن حرف العطف لا يتقدم على
المعطوف عليه ثم لو كانت أيضا حرف عطف لما جاز أن يجمع بينها وبين الواو
فلما جمع بينهما دل على أنها ليست حرف عطف لأن حرف العطف لا يدخل على مثله
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
(1/130)
*****باب
ما لا ينصرف***** (1/131)
إن قال قائل كم العلل التي تمنع الصرف قيل تسع وهي وزن الفعل والوصف
والتأنيث والألف والنون الزائدتان والتعريف والعجمة والعدل والجمع والتركيب
ويجمعها بيتان من الشعر - من البسيط -
( جمع ووصف وتأنيث ومعرفة ... وعجمة ثم عدل ثم تركيب )
( والنون زائدة من قبلها ألف ... ووزن فعل وهذا القول تقريب )
فإن قيل ومن أين كانت هذه العلل فروعا قيل لأن وزن الفعل فرع على وزن
الاسم والوصف فرع على الموصوف والتأنيث فرع على التذكير والألف والنون
الزائدتان فرع لأنهما يجريان مجرى علامة التأنيث في امتناع دخول علامة
التأنيث عليهما ألا ترى أنه لا يقال عطشانة وسكرانة كما لا يقال حمراة
وصفراة والتعريف فرع على التنكير والعجمة فرع على العربية والجمع فرع على
الواحد والعدل فرع لأنه متعلق بالمعدول منه.
والتركيب فرع على الإفراد فهذا وجه كونها فروعا فإن قيل فلم وجب أن تكون
هذه العلل تمنع الصرف قيل لأنها لما كانت فروعا على ما بينا والفعل فرع
على الاسم وهو أثقل من الاسم لكونه فرعا فقد أشبهت الفعل فإذا اجتمع في
الاسم علتان من هذه العلل وجب أن يمتنع من الصرف لشبهه بالفعل فإن قيل فلم
لم يمتنع الصرف بعلة واحدة قيل لأن الأصل في الاسم الصرف ولا يمنع من
الصرف بعلة واحدة لأنها لا تقوى على نقله عن أصله إلا أن تكون العلة تقوم
مقام علتين فحينئذ يمنع من الصرف بعلة واحدة لقيام علة مقام علتين فإن قيل
لم منع ما لا ينصرف التنوين والجر قيل لوجهين:
أحدهما أنه إنما منع التنوين لأنه علامة للصرف فلما وجد ما يوجب منع الصرف
وجب أن يحذف ومنع الجر تبعا له والوجه الثاني أنه إنما منع الجر أصلا لا
تبعا لأنه إنما منع من الصرف لأنه أشبه الفعل والفعل ليس فيه جر ولا تنوين
فكذلك أيضا ما أشبهه فإن قيل فلم حمل الجر على النصب في ما لا ينصرف؟
قيل لأن بين الجر والنصب مشابهة ولهذا حمل النصب على الجر في التثنية وجمع
المذكر والمؤنث السالم فلما حمل النصب على الجر في تلك المواضع فكذلك حمل
الجر على النصب ههنا فإن قيل فلم كان جميع ما لا ينصرف في المعرفة ينصرف
في النكرة إلا خمسة أنواع أفعل إذا كان نعتا نحو أزهر وما كان آخره ألف
التأنيث نحو حبلى وحمراء وما كان على فعلان مؤنثه فعلى نحو سكران وسكرى
وما كان جمعا بعد ألفه حرفان أو ثلاثة أوسطها ساكن نحو مساجد وقناديل وما
كان معدولا عن العدد نحو مثنى وثلاث ورباع وما أشبه ذلك قيل أما أفعل
فإنما لم ينصرف معرفة ولا نكرة لأنه إذا كان معرفة فقد اجتمع فيه التعريف
ووزن الفعل وإذا كان نكرة فقد اجتمع فيه الوصف ووزن الفعل وذهب أبو الحسن
الأخفش إلى أنه إذا سمي به ثم نكر انصرف لأنه لما سمي به زال عنه الوصف
فإذا نكر بقي وزن الفعل وحده فوجب أن ينصرف.
والصحيح أنه لا ينصرف لأنه إذا نكر رجع إلى الأصل وهو الوصف فيجتمع فيه
وزن الفعل والوصف
وكما أنهم صرفوا قولهم مررت بنسوة أربع وإن كان على وزن الفعل
وهو صفة لأن الأصل أن يكون
اسما لا صفة مراعاة للأصل فكذلك ههنا يراعى أصله في الوصف وان كان قد سمي
به. (1/132)
وأما ما كان آخره ألف التأنيث فإنما لم ينصرف البتة لأنه مؤنث وتأنيثه
لازم فكأنه أنث مرتين فلهذا لم ينصرف لأن العلة فيه قامت مقام علتين
وأما ما كان على فعلان مؤنثه فعلى نحو سكران وسكرى فلأن الألف والنون فيه
أشبهتا ألفي التأنيث نحو حمراء وذلك من وجهين أحدهما امتناع دخول تاء
التأنيث والثاني أن بناء مذكره مخالف لبناء مؤنثه فإن لم يكن له مؤنث على
فعلى نحو عثمان فإنه لا ينصرف معرفة وينصرف نكرة وليس من هذه الأنواع وأما
ما كان جمعا بعد ألفه حرفان أو ثلاثة أوسطها ساكن فإنما منع من الصرف
البته وذلك لأربعة أوجه الوجه الأول أنه لما كان جمعا لا يمكن جمعه مرة
ثانية فكأنه قد جمع مرتين والوجه الثاني أنه جمع لا نظير له في الآحاد
فعدم النطير يقوم مقام علة ثانية
والوجه الثالث أنه جمع ولا يمكن أن يكسر مرة ثانية فأشبه الفعل لأن الفعل
لا يدخله التكسير والوجه الرابع أنه جمع لا نظير له في الأسماء العربية
فجرى مجرى الاسم الأعجمي لأن الأعجمي يكون على غير وزن العربي والوجهان
الآخران يرجعان إلى الأولين وأما ما كان معدولا عن العدد نحو مثنى وثلاث
فإنما منع من الصرف في النكرة وذلك للعدل والوصف
وقيل لأنه عدل عن اللفظ والمعنى فأما عدله في اللفظ فظاهر وأما عدله في
المعنى فلأن العدد يراد به قبل العدل الدلالة على قدر المعدود ألا ترى أنك
إذا قلت جاءني اثنان أو ثلاثة أردت قدر ما جاءك فإذا قلت جاءني مثنى وثلاث
لم يجز حتى تقدم قبله جمعا لتدل بذكر المعدود على الترتيب فتقول جاءني
القوم مثنى مثنى وثلاث ثلاث أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة فدل على أنه
معدول من جهة اللفظ والمعنى فلذلك لم ينصرف في النكرة فإن قيل فلم دخل
جميع ما لا ينصرف الجر مع الألف واللام أو الاضافة قيل لثلاثة أوجه:
الوجه الأول أنه أمن فيه التنوين لأن الألف واللام والإضافة لا تكون مع
التنوين فلما وجدت أمن فيه التنوين فدخله الجر في موضع الجر والوجه الثاني
أن الألف واللام والإضافة قامت مقام التنوين ولو كان التنوين فيه لجاز فيه
الجر فكذلك ما قام مقامه والوجه الثالث أنه بالألف واللام والإضافة بعد عن
شبه الفعل فلما بعد عن شبه الفعل دخله الجر في موضع الجر لأنه قد صار
بمنزلة ما فيه علة واحدة فلهذا المعنى دخله الجر مع الألف واللام والإضافة
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
إعراب الأفعال وبنائها***** (1/133)
إن قال قائل لم كانت الأفعال ثلاثة ماض وحاضر ومستقبل قيل لأن الأزمنة لما
كانت ثلاثة وجب أن تكون الأفعال ثلاثة ماض وحاضر ومستقبل.
فإن قيل فلم بني الفعل الماضي على حركة ولم كانت الحركة فتحة قيل إنما بني
أولا لأن الأصل في الأفعال البناء - وبني على حركة تفضيلا له على فعل
الأمر لأن الفعل الماضي أسماء الأشياء في الصفة نحو قولك مررت برجل ضرب
كما تقول مررت برجل ضارب وأشبه أيضا ما أشبه الأسماء في الشرط والجزاء
فإنك تقول إن فعلت فعلت والمعنى فيه إن تفعل أفعل فلما قام الماضي مقام
المستقبل والمستقبل قد أشبه الأسماء فقد أشبه ما أشبه الأسماء فلما أشبه
ما أشبه الأسماء وجب أن يبنى على حركة تفضيلا له على فعل الأمر الذي ما
أشبه الأسماء ولا أشبه ما أشبهها وإنما كانت الحركة فتحة لوجهين:
أحدهما أن الفتحة أخف الحركات فلما وجب بناؤه على حركة وجب أن يبنى على
أخف الحركات والوجه الثاني أنه لا يخلو إما أن يبنى على الكسر أو على الضم
أو على الفتح بطل أن يبنى على الكسر لأن الكسر ثقيل والفعل ثقيل والثقيل
لا ينبغي أن يبنى على ثقيل وإذا كان الجر لا يدخله وهو غير لازم لثقله
فألا يدخله الكسر الذي هو لازم كان ذلك من طريق الأولى وإذا بطل أن يبنى
على الكسر بطل أن يبنى على الضم أيضا لثلاثة أوجه الوجه الأول أن الضم
أثقل.
فإذا بطل أن يبنى على الثقيل فأن لا يبني على الأثقل أولى والوجه الثاني
أن الضم أخو الكسر لأن الواو أخت الياء ألا ترى أنهما يجتمعان في الردف
نحوقوله - من الوافر -
( ولا تكثر على ذي الضغن عتبا ... ولا ذكر التجرم للذنوب )
ولا تسأله عما سوف يبدي ... ولا عن عيبه لك بالمغيب )
( متى تك في صديق أو عدو تخبرك العيون عن القلوب والوجه الثالث إنما لم
يبن على الضم لأن من العرب من يجتزئ بالضمة عن الواو فيقول في قاموا قام
وفي كانوا كان قال الشاعر - من الوافر ( فلو أن الأطبا كان حولي ... وكان
مع الأطباء الشفاة ) وإذا بطل أن يبنى على الكسر والضم وجب أن يبنى على
الفتح فإن قيل لم بنى فعل الأمر على الوقف قيل لأن الأصل في الأفعال
البناء والأصل في البناء أن يكون على الوقف فبني على الوقف لأنه الأصل.
وذهب الكوفيون إلى أنه معرب وإعرابه الجزم واستدلوا على ذلك من ثلاثة أوجه
الوجه الأول أنهم قالوا إنما قلنا أنه معرب مجزوم لأن الأصل في قم و اذهب
لتقم ولتذهب قال الله تعالى ( فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) وذكر
أنها قراءة النبي وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض
مغازيه لتأخذوا مصافكم فدل على أن الأصل في قم لتقم وفي اذهب لتذهب إلا
أنه لما كثر في كلامهم وجرى على ألسنتهم استثقلوا مجيء اللام فيه مع كثرة
الاستعمال فحذفوها مع حرف المضارعة تخفيفا كما قالوا أيش والأصل فيه أي
شيء وكقولهم ويلمه والأصل فيه ويل أمه فحذفوا لكثرة الاستعمال فكذلك ههنا
والوجه الثاني أنهم قالوا
أجمعنا على أن فعل النهي معرب مجزوم نحو لا تقم ولا تذهب فكذلك فعل الأمر
نحو قم واذهب لأن النهي ضد الأمر وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه
على نظيره والوجه الثالث أنهم قالوا الدليل على أنه مجزوم أنك تقول في
المعتل اغز وارم واخش فتحذف الواو والياء والألف كما تقول لم يغز ولم يرم
ولم يخش فدل على أنه مجزوم بلام مقدرة وقد يجوز إعمال حرف الجزم مع الحذف
قال الشاعر (1/134)
( محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبال )
وما ذهب إليه الكوفيون فاسد.
وقولهم أن الأصل في قم لتقم و اذهمتا لتذهب إلا أنه حذف لكثرة الاستعمال
قلنا ليس كذلك فإنه لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يختص الحذف بما يكثر
استعماله دون ما لا يكثر استعماله فلما قيل اقعنسس واحرنجم واعلوط وما
أشبه ذلك بالحذف ولا يكثر استعماله دل على فساد ما ذهبوا إليه وقولهم إن
فعل النهي معرب مجزوم فكذلك فعل الأمر قلنا هذا قياس فاسد لأن فعل النهى
في أوله حرف المضارعة الذي أوجب له المشابهة بالاسم فاستحق الإعراب فكان
معربا وأما فعل الأمر فليس في أوله حرف المضارعة الذي يوجب للفعل المشابهة
بالاسم فيستحق الإعراب فكان باقيا على أصله.
وقولهم أنه يحذف منه الواو والياء والألف نحو اغز وارم واخش كما تقول لم
يغز ولم يرم ولم يخش فنقول إنما حذفت هذه الحروف للبناء لا للإعراب حملا
للفعل المعتل على الفعل الصحيح حملا للفرع على الأصل والذي يدل على صحة ما
ذكرناه أن حروف الجر لا تعمل مع الحذف فحروف الجزم أولى فأما البيت الذي
أنشدوه وهو قوله - من الوافر -
( محمد تفد نفسك كل نفس ... ) فقد أنكره أبو العباس المبرد ولو سلمنا صحته
فنقول قوله تفد نفسك لم تحذف الياء للجزم بلام مقدرة وإنما حذفت الياء
للضرورة اجتزاء بالكسرة عن الياء وهو في أشعارهم أكثر من أن يحصى وإن
سلمنا أن الأصل لتفد وأنه مجزوم بلام مقدرة إلا أنا نقول إنما حذفت اللام
لضرورة الشعر وما حذف للضرورة لا يجوز أن يجعل أصلا يقاس عليه
وقد بينا هذه المسألة مستقصاة في المسائل الخلافية.
فإن قيل فلم أعرب الفعل
المضارع قيل لأنه أشبه الأسماء من الخمسة الأوجه التي ذكرناها قبل في صدر
الكتاب وإعرابه الرفع والنصب والجزم أما الرفع فلقيامه مقام الاسم وقد
ذكرناه أيضا في صدر الكتاب وأما النصب والجزم فسنذكرهما فيما بعد هذا
الباب إن شاء الله تعالى. (1/135)
فإن قيل فلم قالوا هو يغزو ويرمي ويخشى فأثبتوا الواو والياء والألف ساكنة
في حالة الرفع وحذفوها في حالة الجزم وفتحوا الواو والياء في حالة النصب
وسووا في يخشى بين النصب والرفع قيل إنما أثبتوها ساكنة في الرفع لأن
الأصل أن يقال هو يغزو ويرمي ويخشى بضم الواو في يغزو والياء في يرمي و
يخشى إلا أنهم استثقلوا الضمة على الواو من يغزو وعلى الياء من يرمي
فحذفوها فبقيت الواو من يغزو ساكنة وكذلك الياء من يرمي وأما الياء من
يخشى فانقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها
وإنما حذفوا هذه الحروف في الجزم لأنها أشبهت الحركات ووجه الشبه من وجهين
أحدهما أن هذه الحروف مركبة من الحركات على قول بعض النحويين والحركات
مأخوذة منها على قول آخرين وعلى كلا القولين فقد حصلت بينهما المشابهة
والوجه الثاني أن هذه الحروف لا تقوم بها
الحركات كما أن الحركات فكذلك
وكما أنها تحذف للجزم فكون لك هذه الحروف، وقد حكي عن أبي بكر بن السراج
أنه شبه الجازم بالدواء والحركة في الفعل بالفضلة التي يخرجها الدواء. (1/137)
وكما أن الدواء إذا صادف فضلة حذفها وان لم يصادف فضلة اخذ من نفس الجسم
فكذلك الجازم إذا دخل على الفعل إن وجد حركة أخذها وإلا اخذ من نفس الفعل
وسهل حذفها وإن كانت أصلية لسكونها لأنها بالسكون تضعف فتصير في حكم حس
الحركة فكما أن الحركة تحذف فكذلك هذه الحروف وإنما فتحو الواو والياء في
يغزو ويرمي في النصب لخفة الفتحة وانقلبت الياء في نحو يخشى ألفا لتحركها
في النصب وانفتاح ما قبلها كما قلبناها في حالة الرفع لتحركها بالضم في
الأصل وانفتاح ما قبلها فإن قيل فلم كانت الخمسة الأمثلة نحو تفعلان
ويفعلان وتفعلون ويفعلون وتفعلين في حالة الرفع بثبوت النون وفي حالة
النصب والجزم بحذفها قيل لأن هذه الأمثلة لما وجب أن تكون معربة لم يمكن
أن تجعل اللام حرف الإعراب وذلك لأن من الإعراب الجزم فلو أنها حرف
الإعراب لوجب أن تسكن في حالة الجزم فكان يؤدي إلى أن يحذف ضمير الفاعل
وذلك لا يجوز.
ولم يمكن أيضا أن يجعل الضمير حرف الإعراب لأنه في الحقيقة ليس بجزء من
الفعل وإنما هو قائم بنفسه في موضع رفع لأنه فاعل فلا يجوز أن يجعل حرف
إعراب لكلمه أخرى فوجب أن يكون الإعراب بعدها فزادوا النون لأنها تشبه
حروف المد واللين وجعلوا ثبوتها علامة للرفع وحذفها علامة للجزم والنصب
وإنما جعلوا الثبوت علامة للرفع والحذف علامة للجزم والنصب ولم يكن بعكس
ذلك لأن الثبوت أول والحذف طارئ عليه كما أن الرفع أول والجزم والنصب
طارئان عليه فأعطوا الأول الأول والطارئ الطارئ والنصب فيهما محمول على
الجزم لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء وكما أن النصب في
التثنية والجمع محمول على الجر فكذلك النصب ههنا محمول على الجزم
فإن قيل فلم استوى النصب والجزم في قولهم أنت تفعلين للواحدة وليس في
الأسماء الآحاد ما حمل نصبه على جره قيل لأن قولهم أنت تفعلين يشابه لفظ
الجمع ألا ترى أن الجمع في حالة النصب والجر يكون في آخره ياء قبلها كسرة
وبعدها نون كقولك تفعلين فلما أشبه لفظ الجمع حمل عليه ولهذا فتحت النون
منه حملا على الجمع أيضا وكذلك كسروا النون في يفعلان وفتحوها من يفعلون
حملا على تثنية الأسماء وجمعها وهذه الأمثلة معربة لا حرف إعراب لها وذلك
لما بينا من استحالة جعل اللام
أو الضمير أو النون حرف
الإعراب وليس لها نظير في كلامهم فإن قيل فهلا كان يفعلان ويفعلون تثنية
وجمعا ل يفعل ا كما كان زيدان وزيدون تثنية وجمعا ل زيد قيل لأن الفعل لا
يجوز تثنيته ولا جمعه وإنما لم يجز ذلك لأربعة اوجه الوجه الأول أن الفعل
يدل على المصدر والمصدر لا يثني ولا يجمع لأنه يدل على الجنس إلا أن تختلف
أنواعه فيجوز تثنيته وجمعه فلما كان الفعل يدل على المصدر المبهم الدال
على الجنس لم يجز تثنيته ولا جمعه والوجه الثاني أن الفعل لو جازت تثنيته
مع الاثنين وجمعه مع الجماعة لجازت تثنيته وجمعه مع الواحد فكان يجوز أن
يقال زيد قاما وقاموا إذا فعل ذلك مرتين أو مرارا فلما لم يجز ذلك دل على
أنه لا يثنى ولا يجمع والوجه الثالث أن الفعل ليس بذات يقصد إليها بأن يضم
إليها غيرها كما يكون ذلك في الأسماء فلذلك لم يثن ولم يجمع والوجه الرابع
أن الفعل يدل على مصدر وزمان فصار في المعنى كأنه اثنان (1/138)
فكما لا يجوز تثنية الاسم المثنى فكذلك لا يجوز تثنية الفعل فإن قيل أليس
الألف في يفعلان تدل على التثنية والواو في يفعلون تدل على الجمع قيل
الألف والواو يدلان على التثنية والجمع ولكن على تثنية الضمير وجمعه لا
على تثنية الفعل وجمعه لما بينا
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
****باب
الحروف التي تنصب الفعل المستقبل**** (1/140)
إن قال قائل لم وجب أن تعمل أن ولن وإذن وكي النصب قيل إنما وجب أن تعمل
لاختصاصها بالفعل ووجب أن يكون عملها النصب لأن أن الخفيفة تشبه أن
الثقيلة و أن الثقيلة تنصب الاسم فكذلك أن هذه يجب أن تنصب الفعل
وحملت لن وإذن وكي على أن وإنما حملت عليها لأنها تشبهها ووجه الشبه
بينهما أن أن الخفيفة تخلص الفعل المضارع للاستقبال وهذه الحروف تخلص
الفعل المضارع للاستقبال فلما اشتركا في هذا المعنى حملت عليها ويحكى عن
الخليل أنه قال لا ينصب شيء من الأفعال إلا ب أن مظهرة أو مقدرة والأكثرون
على خلافه وتكون أن مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر ألا ترى أنك إذا قلت إن
تفعل كذا خير لك كان التقدير فعلك كذا خير لك وما أشبه ذلك.
وأما لن ففيها قولان فذهب الخليل إلى أنها مركبة من كلمتين وأصلها لا أن
فحذفوا الألف من لا والهمزة من أن لكثرة الاستعمال كقولهم ويلمه وركبوا
إحداهما مع الأخرى فصار لن وذهب سيبويه إلى أنها ليست مركبة من كلمتين بل
هي بمنزلة شيء على حرفين ليس فيه زيادة قال سيبويه ولو كانت على ما يقول
الخليل لما قلت أما زيدا فلن أضرب لأن ما بعد أن لا يعمل في ما قبلها
ويمكن أن يعتذر عن الخليل بأن يقال أن الحروف إذا ركبت تغير حكمها بعد
التركيب عما كانت عليه قبل التركيب، ألا ترى أن هل لا يجوز أن يعمل ما
بعدها فيما قبلها وإذا ركبت مع لا ودخلها معنى التخصيص جاز أن يعمل ما
بعدها فيما قبلها فيقال زيدا هلا ضربت فكذلك ههنا ويمكن أن يقال على هذا
أيضا أن هلا ذهب منها معنى الاستفهام فجاز أن يتغير حكمها وأما لن فمعنى
النفي باق فيها فينبغي ألا يتغير حكمها وأما إذن فتستعمل على ثلاثة اضرب
الأول أن تكون عاملة وهو أن تدخل على الفعل المضارع فيراد به الاستقبال
وتكون جوابا نحو أن يقول القائل أنا أزورك فتقول إذن أكرمك فيجب أعمالها
لا غير والثاني أن يدخل عليها الواو والفاء للعطف فيجوز إعمالها وإهمالها
وذلك نحو قولك إن تكرمني أكرمك وإذن أحسن إليك فيجوز إعمالها، فتنصب الفعل
بعدها كما لو ابتدأت بها فترجع إلى القسم الأول ويجوز إهمالها فترفع الفعل
بعدها لأنه مع الضمير المستكن فيه خبر مبتدأ محذوف والتقدير فيه وأنا إذن
أحسن إليك فترجع إلى القسم الثالث
والثالث أن تدخل بين كلامين أحدهما متعلق بالآخر نحو أن تدخل بين الشرط
وجوابه نحو إن تكرمني إذن أكرمك او بين المبتدأ وخبره نحو زيد إذن يقوم
وما أشبه ذلك فلا يجوز إعمالها بحال وكذلك إذا دخلت على فعل الحال نحو
قولك إذن أظنك كاذبا إذا أردت أنك في حال الظن وذلك لأن إذن إنما عملت
لأنها أشبهت أن و أن لا تدخل على فعل الحال
ولا يكون بعدها إلا المستقبل
فإذا زال الشبه بطل العمل (1/141)
وأما كي فتستعمل على ضربين أحدهما أن تعمل بنفسها وتكون مع الفعل بمنزلة
الاسم الواحد نحو جبئتك لكي تعطيني حقي والثاني أن تعمل بتقدير أن لأنهم
يجعلونها بمنزلة حرف جر لأنهم يقولون كيمه كما يقولون لمه وإنما وجب أن
تقدر بعدها أن لأن حروف الجر لا تعمل في الفعل فإن قيل فلم وجب تقدير أن
بعدها وبعد الفاء والواو وأو واللام وحتى دون أخواتها قيل لثلاثة أوجه
الوجه الأول أن أن هي الأصل في العمل والوجه الثاني أن أن ليس لها معنى في
نفسها بخلاف لن وإذن وكي فلنقصان معناها كان تقديرها أولى من سائر أخواتها
والوجه الثالث أن أن لما كانت تدخل على الفعل الماضي والمستقبل ولا يوجد
هذا في سائر أخواتها فقد وجد فيها مزية على سائر أخواتها في حالة إظهارها
فإذا وجد فيها مزية على سائر أخواتها في حالة الإظهار كانت أولى بالإضمار
فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
*****باب
حروف الجزم***** (1/142)
إن قال قائل لم وجب أن تعمل لم ولما ولام الأمر ولا في النهي في الفعل
المضارع الجزم قيل إنما وجب أن تعمل لاختصاصها
بالفعل وإنما وجب أن تعمل الجزم وذلك لأن لم لما كانت تدخل على الفعل
المضارع فتنقله إلى معنى الماضي كما أن إن التي للشرط والجزاء تدخل على
الفعل الماضي فتنقله إلى معنى المستقبل فقد أشبهت حرف الشرط وحرف الشرط
يعمل الجزم فكذلك ما أشبهه وإنما وجب لحرف الشرط أن يعمل الجرم لأنه يقتضي
جملتين فلطول ما يقتضيه حرف الشرط اختير له الجزم لأنه حذف وتخفيف وأما
لما فبمنزلة لم في النقل فكان محمولا عليه وأما لام الأمر فإنما وجب أن
تعمل الجزم لاشتراك الأمر باللام وبغير اللام في المعنى فوجب أن تعمل
اللام الجزم ليكون الأمر باللام مثل الأمر بغير اللام في اللفظ وإن كان
أحدهما جزما والآخر وقفا
وأما لا في النهي فإنما وجب أن تعمل الجرم ا حملا على الأمر لأن الأمر ضد
النهي وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره ولما كان الأمر
مبنيا على الوقف وقد وجب حمل النهي عليه جعل النهي نظيرا له في اللفظ وإن
كان أحدهما جزما والآخر وقفا على ما بينا فلهذا وجب أن تعمل الجزم.
فإن قيل إذا كان الأصل في لم أن تدخل على الماضي فلم نقل إلى لفظ المضارع
قيل لأن لم يجب أن تكون عاملة فلو لزم ما بعدها الماضي لما تبين عملها
فنقل الماضي إلى المضارع ليتبين عملها فإن قيل فهلا جوزتم دخولها على
الماضي والمستقبل كما جاز في حرف الشرط والجزاء قيل الفرق بينهما ظاهر
وذلك لأن الأصل في حرف الشرط والجزاء أن يدخل على الفعل المستقبل
والمستقبل أثقل من الماضي فعدل عن الأثقل إلى الأخف فأما لم فالأصل فيها
أن تدخل على الماضي وقد وجب سقوط الأصل فلو جوزنا دخولها على الماضي الذي
هو الأصل لما جاز دخولها على المضارع الذي هو الفرع لأنه إذا استعمل الأصل
الذي هو الأخف لم يستعمل الفرع الذي هو الأثقل فاعرفه تصب إن شاء الله
تعالى.